السبت، ١٢ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٠ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

تنبيهات رمضانية (3) فقه البكاء عند تلاوة القرآن

تنبيهات رمضانية (3) فقه البكاء عند تلاوة القرآن
الاثنين ١٨ أبريل ٢٠٢٢ - ٠٤:٠٠ ص
127


تنبيهات رمضانية (3) فقه البكاء عند تلاوة القرآن

كتبه/ محمد إسماعيل المقدم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فما زال الحديث موصولًا حول بعض الفوائد والتنبيهات الرمضانية التي تمس الحاجة إلى بيانها، مما يتعلَّق بمخالفات للسنة تتكرر في شهر رمضان المعظم بصورة موسمية، ومن ذلك:

البكاء عند تلاوة القرآن:

يستحب البكاء عند تلاوة القرآن المجيد، قال الله تعالى في سياق الثناء على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: "إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدًا وبُكيًّا"، وعن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال: "أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، وفي صدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء".

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يلج النارَ رجلٌ بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضَّرْع، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم".

وروى خالد بن معدان عن كعب الأحبار قال: "لأن أبكي من خشية الله أحبُّ إليَّ مِن أن أتصدق بوزني ذهبًا". 

وعن الحسن قال: "إن كان الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر به جاره، وإن كان الرجل لقد فَقُهَ الفقهَ الكثير وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزَّوْرُ وما يشعرون به، ولقد أدركنا أقوامًا ما كان على ظهر الأرض من عمل يقدرون على أن يعملوه في سرٍّ؛ فيكون علانية أبدًا، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء، وما يُسمع لهم صوت؛ إن كان إلا هَمْسًا بينهم وبين ربهم عز وجل، ذلك أن الله عز وجل يقول: "ادعوا ربكم تضرعًا وخفية"، وذلك أن الله تعالى ذكر عبدًا صالحًا ورضي قوله، فقال: "إذ نادى ربه نداءً خفيًّا".

وكان إبراهيم التيمي يقول: "المخلص مَن يكتم حسناته كما يكتم سيئاته"، وقال الحسن البصري: "إن كان الرجل ليجلس المجلس، فتجيئه عبرته فيردها، فإذا خشي أن تسبقه قام".

وفي قوله تعالى: "اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ"، أي: تسكن نفوسهم من حيث اليقين إلى الله، وإن كانوا يخافون الله، فهذه حالة العارفين بالله، الخائفين من سطوته وعقوبته؛ لا كما يفعل جهال العوام، والمبتدعة الطَّغام من الزعيق والزئير، ومن النهاق الذي يشبه نُهاق الحمير!

فيُقال لمن تعاطى ذلك، وزعم أن ذلك وجدٌ وخشوع: لم تبلغ أن تساويَ حال الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا حال أصحابه رضي الله عنهم في المعرفة بالله، والخوف منه، والتعظيم لجلاله، ومع ذلك فكانت حالهم عند المواعظ الفهم عن الله، والبكاء خوفًا من الله؛ ولذلك وصف الله أحوال أهل المعرفة عند سماع ذكره وتلاوة كتابه فقال: "وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ"؛ فهذا وصف حالهم وحكاية مقالهم، ومَن لم يكن كذلك، فليس على هديهم، ولا على طريقتهم، فمن كان مُستَنًا فليستن، ومَن تعاطى أحوال المجانين والجنون؛ فهو من أخسهم حالًا، والجنون فنون!

وروى الترمذي وصححه عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: "وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوبُ" الحديث، ولم يقل: زعقنا، ولا رقصنا، ولا زَفَنًّا، ولا قُمْنَا" (تفسير القرطبي).

ولأن الرياء كالزجاج يشف عما وراءه، فسرعان ما يُفْتَضَح المرائي، ويعامَل بنقيض قصده!

رُوي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: "مَن تزين بما ليس فيه، شانه الله".

التنبيه:

البكاء عند تلاوة القرآن وسماعه ليس مقصودًا لذاته، ولا هو المراد في الأصل؛ إنما المقصود حضور القلب وتدبره لما يتلو ويسمع، فيُحدث له ذلك إيمانًا ويقينًا، ورغبة ورهبة، ومحبة وشوقًا، وتُوجب له هذه الأمور خضوعًا وخشوعًا، وذلًّا وانكسارًا، يصاحب ذلك رقة وبكاء.

فهذا البكاء يُمدح ويثنَى على صاحبه، لا البكاء المجرد عن السبب الذي ذكرتُ، العاري عن الخشوع الذي وصفتُ، ولا البكاء المتكلَّف أو الذي يُراد به وجه الخلق.

وينبغي للقارئ إذا كان مع الناس أن يخفي بكاءه ما استطاع، وإذا كان وحده فليبكِ ما شاء، لكن لا يحَدِّثُ به بعدُ.

ولقد رأيتُ مِن الأئمة مَن يتجهز للبكاء قبل الصلاة!

ورأيت مَن يُقدِّم الإمام إلى الصلاة، ويقول له: ابكِ يا شيخ!

ورأيت مَن يبكي أثناء الفاتحة في الركعة الأولى!

بل إن بعضهم لتخرج منه تكبيرة الإحرام مخنوقة من البكاء!

ما هكذا كان السلف! كانوا يبكون في مواضع البكاء، ويبكون غلبة لا تصنعًا، ويبكون لما تحدثه الآياتُ في قلوبهم من الخشوع والرقة، لا يبكون رياءً وسمعة.

ولقد رأيت من لا تكاد تُفهم قراءته لكثرة بكائه! والله لـو كان هـذا غلبـة لعذرناه إذا أحسن قراءة الفاتحة، لكـن هـو التكلف!

وصليت مرة خلف بعضهم فناح طوال الصلاة، وبعض من خلفه يبكون، ويتكلمون بالدعاء والنياحة والتأوهات في الصلاة وأثناء القراءة! ويخرجون المناديل من جيوبهم، ويمسحون وجوههم، ويتحركون هكذا وهكذا.

قال ابن الجوزي رحمه الله: "إن أول الوجد انزعاج في الباطن، فإن كف الإنسان نفسه كي لا يُطَّلَعَ على حاله يئس الشيطان منه، فبعد عنه، كما كان أيوب السختياني إذا تحدث فَرَقَّ قلبُه مسح أنفه، وقال: ما أشد الزكام! وإن أهمل الإنسان نفسه ولم يبالِ بظهور وجده، أو أحب اطلاع الناس على نفسه نفخ فيه الشيطان، فانزعج على قدر نفخه".

فالحاصل: أنه إذا كان البكاء لقصدٍ صالحٍ، لا لقصد الرياء؛ فلا مانع من ذلك، لكن إذا كان يرى أن ترديده لذلك قد يزعجهم، ويحصل به أصوات مزعجة من البكاء، فترك ذلك أولى حتى لا يحصل تشويش، أما إذا كان ترديد ذلك لا يترتب عليه إلا خشوع وتدبر وإقبال على الصلاة؛ فهذا كله خير.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com


 


الكلمات الدلالية