السبت، ١٩ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٧ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

تكفير المسلم المُعيَّن والعذر بالجهل 3

جواب لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن سؤال ورد إليه

تكفير المسلم المُعيَّن والعذر بالجهل 3
ياسر برهامي
الاثنين ١٣ أبريل ٢٠١٥ - ١١:٤٢ ص
2500

تكفير المسلم المُعيَّن والعذر بالجهل 3

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

استكمالًا لما كنا قد بدأناه في المقالين السابقين مِن ذكر نُقولٍ عن أهل العلم حول تكفير المسلم المُعيَّن والعُذر بالجهل؛ فهذا جواب لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن سؤال ورد إليه يقول:

ما تقول السادة العلماء أئمة الدين -رضي الله عنهم أجمعين- في قوم يُعظِّمون المشايخ بكون أنهم يستغيثون بهم في الشدائد، ويتضرعون إليهم، ويزورون قبورهم، ويُقبِّلونها، ويتباركون بترابها، ويُوقدون المصابيح طول الليل، ويتخذون لها مواسمًا يقدمون عليها مِن البُعد، يُسمُّونها ليلة الـمَحْيَا؛ فيجعلونها كالعيد عندهم، وينذرون لها النذور، ويُصلون عندها؟

وقد قال شيخ الإسلام في معرض جوابه: «الحمد لله رب العالمين، مَن استغاث بميت أو غائب مِن البشر بحيث يدعوه في الشدائد والكربات، ويطلب منه قضاء الحوائج؛ فيقول: يا سيدي الشيخ فلان؛ أنا في حسبك وجوارك، أو يقول عند هجوم العدو عليه: يا سيدي فلان! يستوحيه ويستغيث به؟ أو يقول ذلك عند مرضه وفقره وغير ذلك من حاجاته؛ فإن هذا ضال جاهل مُشرِك عاصٍ لله باتفاق المسلمين، فإنهم متفقون على أن الميت لا يُدعى ولا يطلب منه شيء، سواء كان نبيًّا أو شيخًا أو غير ذلك. وهذا الشرك إذا قامت على الإنسان الحجة فيه ولم ينتهِ، وجب قتله كقتل أمثاله من المشركين، ولم يُدفن في مقابر المسلمين، ولم يُصلَّ عليه، وأما إذا كان جاهلًا لم يبلغه العلم، ولم يعرف حقيقة الشرك الذي قاتل عليه النبي صلى الله عليه وسلم، المشركين؛ فإنه لا يُحكم بكفره، ولا سِيَّما وقد كثر هذا الشرك في المنتسبين إلى الإسلام، ومن اعتقد مثل هذا قربة وطاعة؛ فإنه ضالٌّ باتفاق المسلمين، وهو بعد قيام الحجة كافر، والواجب على المسلمين عمومًا وعلى ولاة الأمور خصوصًا النهي عن هذه الأمور، والزجر عنها بكل طريق، وعقوبة مَن لم ينتهِ عن ذلك العقوبة الشرعية، والله أعلم».

وقال رحمه الله تعالى: «ومنهم مَن يطلب مِن الميت ما يطلب مِن الله، فيقول: اغفر لي، وارزقني وانصرني، ونحو ذلك؛ كما يقول المصلي في صلاته لله تعالى إلى أمثال هذه الأمور التي لا يشك مَن عرف دين الإسلام أنها مخالفة لدين المرسلين أجمعين؛ فإنها مِن الشرك الذي حرمه الله ورسوله، بل مِن الشرك الذي قاتل عليه الرسول صلى الله عليه وسلم المشركين، وأن أصحابها إن كانوا يُعذرون بالجهل، وأن الحجة لم تقم عليهم، كما يُعذر مَن لم يُبعث إليه رسول، كما قال الله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)».

وقال: «كذلك من دعا غير الله وحجَّ إلى غير الله؛ هو أيضًا مشرك، والذي فعله كفر، لكن قد يكون عالـمًا بأن هذا شرك محرم، كما أن كثيرًا من الناس دخلوا في الإسلام من التتار وغيرهم، وعندهم أصنام لهم صعار من لبد وغيره، وهم يتقربون إليها ويعظمونها، ولا يعلمون أن ذلك محرم في دين الإسلام، ويتقربون إلى النار أيضًا، ولا يعلمون أن ذلك محرم؛ فكثير من أنواع الشرك قد يخفى على بعض من دخل في الإسلام، ولا يعلم أنه شرك؛ فهذا ضال، وعمله الذى أشرك فيه باطل، لكن يستحق العقوبة حتى تقوم عليه الحجة. قال تعالى: (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)».

وقال رحمه الله: «والتحقيق في هذا أن القول قد يكون كفرًا كمقالات الجهمية الذين قالوا أن الله لا يتكلم ولا يرى في الآخرة، ولكن قد يخفى على بعض الناس أنه كفر، فيطلق القول بتكفير القائل كما قال السلف: من قال القرآن مخلوق فهو كافر، ومن قال أن الله لا يرى في الآخرة فهو كافر، ولا يُكفَّر الشخص المعين حتى تقوم عليه الحجة». اهـ.

وقال رحمه الله: «ففي الجملة الأجر هو على اتباعه الحق بحسب اجتهاده؛ ولو كان في الباطن حق يناقضه هو أولى بالاتباع لو قدر على معرفته؛ لكن لم يقدر هذا كالمجتهدين في جهات الكعبة، وكذلك كل من عبد عبادة نهي عنها ولم يعلم بالنهي، لكن هي من جنس المأمور به؛ مثل من صلى في أوقات النهي وبلغه الأمر العام بالصلاة، ولم يبلغه النهي، أو تمسك بدليل خاص مرجوح؛ مثل صلاة جماعة من السلف ركعتين بعد العصر؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم صلاهما، ومثل صلاة رُويت فيها أحاديث ضعيفة أو موضوعة؛ كألفية نصف شعبان وأول رجب وصلاة التسبيح، كما جوَّزها ابن المبارك وغير ذلك، فإنها إذا دخلت في عموم استحباب الصلاة، ولم يبلغه ما يُوجب النهي أثيب على ذلك، وإن كان فيها نهي من وجه لم يعلم بكونها بدعة تتخذ شعارًا ويجتمع عليها كل عام؛ فهو مثل أن يُحدِث صلاة سادسة؛ ولهذا لو أراد أن يُصلي مثل هذه الصلاة بلا حديث لم يكن له ذلك، لكن لما روى الحديث اعتقد أنه صحيح فغلط في ذلك؛ فهذا يُغفر له خطأه، ويُثاب على جنس المشروع، وكذلك مَن صام يوم العيد ولم يعلم بالنهي.

بخلاف ما لم يُشرع جنسه مثل الشرك؛ فإن هذا لا ثواب فيه، وإن كان الله لا يُعاقِب صاحبه إلا بعد بلوغ الرسالة، كما قال الله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)، لكنه وإن كان لا يُعذِّب إن هذا لا يُثاب، بل هذا كما قال الله تعالى: (وَقَدِمْنَا إِلَى? مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا)، قال ابن المبارك: هي الأعمال التي عُمِلت لغير الله. وقال مجاهد: هي الأعمال التي لم تُقبل، وقال تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ). الآية. فهؤلاء أعمالهم باطلة لا ثواب فيها، وإذا نهاهم الرسول عنها فلم ينتهوا عوقبوا؛ فالعقاب عليها مشروط بتبليغ الرسول، وأما بطلانها في نفسها، فلأنها غير مأمور بها؛ فكل عبادة غير مأمور بها فلا بد أن يُنهى عنها، ثم إن علم أنها منهي عنها وفعلها استحقَّ العقاب، فإن لم يعلم لم يستحق العقاب، وإن اعتقد أنها مأمور بها، وكانت مِن جنس المشروع فإنه يُثاب عليها، وإن كانت مِن جنس الشرك فهذا جنس ليس فيه شيء مأمور به، لكن قد يحسم بعض الناس في بعض أنواعه أنه مأمور به.

وهذا لا يكون مجتهدًا؛ لأن المجتهد لا بد أن يتبع دليلًا شرعيًّا، وهذه لا يكون عليها دليل شرعي، لكن قد يفعلها باجتهاد مثله: وهو تقليده لمن فعل ذلك مِن الشيوخ والعلماء والذين فعلوا ذلك قد فعلوه لأنهم رأوه ينفع، أو لحديث كذب سمعوه؛ فهؤلاء إذا لم تقم عليهم الحجة بالنهي لا يُعذَّبون، وأما الثواب فإنه قد يكون ثوابهم أنهم أرجح مِن أهل جنسهم، وأما الثواب والتقرُّب إلى الله فلا يكون بمثل هذه الاعمال».

وقال رحمه الله: «وهكذا الاقوال التي يُكفر قائلها قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق وقد تكون عنده ولم تثبت عنده أو لم يتمكن من فعلها، وقد يكون قد عرضت له شبهات يعذره الله بها؛ فمن كان من المؤمنين مجتهدًا في طلب الحق وأخطأ فإن الله يغفر له خطأه؛ كائنًا ما كان، سواء كان في المسائل النظرية أو العملية، هذا الذى عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وجماهير أئمة الاسلام وما قسموا المسائل إلى مسائل أصول يكفر بإنكارها ومسائل فروع لا يُكفر بإنكارها؛ فأما التفريق بين نوع وتسميته مسائل الأصول وبين نوع آخر وتسميته مسائل الفروع؛ فهذا الفرق ليس له أصل لا عن الصحابة، ولا عن التابعين لهم بإحسان، ولا أئمة الاسلام، وإنما هو مأخوذ عن المعتزلة وأمثالهم من أهل البدع وعنهم تلقاه من ذكره من الفقهاء في كتبهم».

وقال رحمه الله عن طوائف من أهل البدع كالخوارج وغيرهم: «وأما تكفيرهم وتخليدهم؛ ففيه أيضًا للعلماء قولان مشهوران: وهما روايتان عن أحمد، والقولان في الخوارج والمارقين من الحرورية والرافضة ونحوهم. والصحيح أن هذه الاقوال التي يقولونها التي يُعلم أنها مخالفة لما جاء به الرسول كفر، وكذلك أفعالهم التي هي من جنس أفعال الكفار بالمسلمين هي كفر أيضًا.

وقد ذكرت دلائل ذلك في غير هذا الموضع؛ لكن تكفير الواحد المعين منهم والحكم بتخليده في النار موقوف على ثبوت شروط التكفير وانتفاء موانعه؛ فإنا نطلق القول لنصوص الوعد والوعيد والتكفير والتفسيق، ولا نحكم للمعين بدخوله في ذلك العام حتى يقوم فيه المقتضى الذى لا معارض له، وقد بسطت هذه القاعدة في قاعدة التكفير؛ ولهذا لم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم بكفر الذي قال: "إذا مت فأحرقوني ثم ذروني في اليم؛ فوالله لئن قدر الله عليَّ ليُعذبني عذابًا لا يعذبه أحدًا من العالمين" مع شكه في قدرة الله وإعادته؛ ولهذا لا يُكفِّر العلماء من استحل شيئًا من المحرمات لقرب عهده بالإسلام أو لنشأته ببادية بعيده؛ فإن حكم الكفر لا يكون إلا بعد بلوغ الرسالة، وكثير من هؤلاء قد لا يكون قد بلغته النصوص المخالفة لما يراه ولا يعلم أن الرسول بعث بذلك؛ فيطلق أن هذا القول كفر ويكفر متى قامت عليه الحجة التي يكفر تاركها دون غيره، والله أعلم».

وقال رحمه الله: «والتكفير هو من الوعيد؛ فإنه وإن كان القول تكذيبًا لما قاله الرسول، لكن قد يكون الرجل حديث عهد بإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، ومثل هذا لا يُكفَّر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة، وقد يكون الرجل لا يسمع تلك النصوص، أو سمعها ولم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها، وإن كان مخطئًا، وكنت دائمًا أذكر الحديث الذي في الصحيحين في الرجل الذى قال: إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني ثم ذروني في اليم؛ فوالله لئن قدر الله عليَّ ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا من العالمين؛ ففعلوا به ذلك، فقال الله له: ما حملك على ما فعلت؟ قال: خشيتك، فغفر له.

فهذا رجل شك في قدرة الله وفي إعادته إذا ذري، بل اعتقد أنه لا يعاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلًا لا يعلم ذلك، وكان مؤمنًا يخاف أن يعاقبه الله؛ فغُفِر له بذلك».

وقال في الرد على البكري: «ولهذا أقول للجهمية من الحلولية والنفاة الذين ينفون أن يكون الله تعالى فوق العرش: أنا لو وافقتكم كنت كافرًا؛ لأنى أعلم أن قولكم كفر وأنتم عندي لا تكفرون؛ لأنكم جُهُّال». اهـ.

وبهذه النُقول الواضحة عن شيخ الإسلام ابن تيمية، وفي مسائل مِن أصول العقيدة، وفي توحيد الألوهية والأسماء والصفات، تعرف خطأ مَن قال: أن العذر بالجهل مقصور على المسائل التي قد تخفى، مثل: مسائل المعاملات، وبعض شئون الصلاة، وكذلك مَن يجعل الناس في مجاهل أفريقية، ونحوها ممن دخل في الإسلام وأتى بشيء مِن هذه الشركيات معذورًا، بمعنى أن حُكمه حُكم أهل الفترة الذين يُمتَحَنُون في القيامة؛ فالظاهر بل المنصوص عليه من كلام أهل العلم التفرقة بين من دخل في الإسلام، وصدَّق الرسول إجمالًا، وبين مَن لم يدخل فيه أصلًا ممن لم تبلغه الدعوة؛ فالأول عنده أصل الإيمان، والثاني كافر معذور لعدم بلوغ الرسالة، وقد أوضحنا أن خفاء الأمور وظهورها نسبي.

ولا نقصد بأن هذا الأمر نسبي أن كل الأمور كذلك؛ بل هناك ما يقطع كل أحد بانتشاره بين المسلمين، والذي لا يقل دعوى الجهل فيه إلا بقربة كما أوضحنا؛ فمن كان ناشئًا اليوم في بلادنا ثم جحد وجوب الصلاة مثلًا، أو قال عن أحكام الإسلام إنها مِن نفايات القرون الوسطى الوحشية، أو قال بحِل الزنا، والخمر؛ فلا شك في رِدَّته مِن ساعته؛ لأن الحجة بمثل ذلك قائمة على كل أحد. 

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة