الثلاثاء، ١٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ١٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

(وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) (12) تكملة لبعض أحكام عقد الأمان (3)

عقد الأمان للكافرة الحربية بزواجها مِن مسلمٍ أو ذِمّي- حكم الأسير المُسْلِم إذا أُطلِق على شرط الإقامة في دار الكفر- حكم إطلاق الأسير المُسْلِم دون شرطٍ...

(وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) (12) تكملة لبعض أحكام عقد الأمان (3)
ياسر برهامي
الأحد ١٣ أغسطس ٢٠١٧ - ١٧:٤١ م
1181

(وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) (12) تكملة لبعض أحكام عقد الأمان (3)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد ذكرنا في المقال السابق جملة مِن أحكام الأمان للكافر الحربي إذا دخل بلاد الإسلام، وذكرنا كذلك جملة مِن أحكام المسلم إذا دخل دار الحرب بأمانٍ منه لهم، وأنه لا يجوز أن يخونهم -لأنهم إنما أعطوه الأمان بشرط عدم خيانتهم وأَمْنِه إياهم مِن نفسه-، وأن كل عقود المعاوضات لازمة له، وكذا المضاربة -ومثلها الشركة-، وكذا الوديعة، والقرض، والبيع في الذمة.

ومِن هنا تعلم حرمة عمليات النصب والخداع التي يقوم بها البعض في أموال الكفار بزعم أن أموالهم حلال؛ فإن ما أُخِذَ مِن خلال العقود والعهود وَجَبَ الوفاء به؛ لقوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة:1)؛ ولقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).

ونستكمل اليوم جملة أخرى مِن هذه الأحكام:

عقد الأمان للكافرة الحربية بزواجها مِن مسلمٍ أو ذِمّي:

قال صاحب الشرح الكبير، شمس الدين ابن قدامة المقدسي الحنبلي: "وإذا دخلت الحَربِيَّة إلينا بأمان فتزوجت ذِمِّيًّا في دارنا ثم أرادت الرجوع لم تُمْنَع إذا رضي زوجُها أو فارَقَها. وقال أبو حنيفة: تُمْنَع. ولنا: أنه عقد لا يلزم الرجل به المقام، فلا يلزم المرأة، كعقد الإجارة" (انتهى).

وهذا يدل على إعطاء الكافرة حق الإقامة في دار الإسلام بزواجها مِن ذمي، وبالأولى إذا تزوجت مسلمًا، ويستمر لها حكم الأمان بذلك، ولا يتقيد بسَنَةٍ أو أربعةِ أشهر.

حكم الأسير المُسْلِم إذا أُطلِق على شرط الإقامة في دار الكفر:

قال موفق الدين ابن قدامة في المُقْنِع: "وإن أَسَر الكفار مُسْلِمًا فأطلَقوه بشرط أن يُقِيمَ عندهم مُدَّةً لَزِمَه الوفاء لهم، وإن لم يشترطوا شيئًا أو شرطوا كونه رقيقًا؛ فله أن يقتل ويسرق ويهرب، وإن أطلَقوه بشرط أن يبعث إليهم مالًا وإن عجز عليه عاد إليهم لَزِمَه الوفاء لهم؛ إلا أن تكون امرأةً فلا ترجع إليهم. وقال الخرقي: لا يرجع الرجل أيضًا" (انتهى).

قال صاحب الشرح الكبير: "وإذا أَسَر الكفار مُسْلِمًا فأطلَقوه بشرط أن يُقِيمَ عندهم مُدَّةً لَزِمَه الوفاء لهم، ولم يكن له أن يهرب. نَصَّ عليه؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "المؤمنون عند شروطهم"، وقال الشافعي: لا يلزمه.

وان أطلَقوه وأَمَّنُوه صاروا في أمانٍ منه؛ لأن أمانهم له يقتضي سَلامَتَهم منه، فإن أَمْكَنَه المُضِيُّ إلى دار الإسلام لَزِمَه، وإن تَعَذَّرَ عليه أَقَام، وكان حُكْمُه حُكْم مَن أَسْلَمَ في دار الحرب، فإن خَرَج فأَدْرَكُوه وتَبِعوه قَاتَلَهم، وبطل الأمان؛ لأنهم طلبوا منه المقام وهو معصية" (انتهى).

قال المرداوي في الإنصاف: "قال الشيخ تقي الدين: ما ينبغي أن يدخل معهم في التزام الإقامة أبدًا؛ لأن الهجرة واجبة عليه؛ ففيه التزامٌ بترك الواجب، اللهم إلا أن لا يمنعوه مِن دينه، ففيه التزامٌ بترك المستحب. وفيه نظر" (انتهى).

ومِن هذا الكلام النفيس لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، نعرف حكم الإقامة في دار الكفر إذا كان يمكن للمرء أن يحافِظ على دينه -والمعنى أن يحافظ على أصل الإسلام، وأن يحافظ على الواجبات وترك المحرمات-؛ فإذا كان قادرًا على إقامة الدين لم يجب عليه الهجرة، وكانت مستحبة.

وهذا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، وبذلك تعرف حكم الإقامة في هذه البلاد التي كَثُرَ المسلمون فيها جدًّا، واستقرت أحوال الكثيرين منهم فيها؛ فالأمر مَبْنِيّ على القدرة على إقامة الدين. والله أعلم.

حكم إطلاق الأسير المُسْلِم دون شرطٍ، أو بشرط الاسترقاق:

قال شمس الدين في الشرح الكبير: "فإن لم يشترطوا شيئًا أو شَرَطوا كونَه رقيقًا؛ فله أن يَقْتُل ويَسْرِق ويَهْرب، أما إذا أَطلَقوه ولم يُؤَمِّنُوه فله أن يأخذ منهم ما قَدَر عليه ويَسْرِق ويَهْرب؛ لأنه لم يُؤَمِّنْهُم ولم يُؤَمِّنُوه.

وكذلك إن شرطوا كونه رقيقًا فرَضِيَ بذلك أو لم يَرْضَ؛ لأن كونَه رقيقًا حكمٌ شرعيٌ لا يثبت عليه بقوله، ولو ثبت لم يَقْتَضِ أمانًا له منهم، ولا لهم منه. وهذا مذهب الشافعي. وإن أَحْلَفُوه على ذلك وكان مُكْرَهًا لم تنعقد يمينه، وإن كان مُخْتارًا انعقدت يمينه، ويحتمل أن تلزمه الإقامة إذا قلنا يلزمه الرجوع إليهم. وهو قول الليث".

حكم إطلاق الأسير المُسْلِم على شرط المال:

قال في الشرح الكبير: "مسألة: وإن أَطلَقوه بشرط أن يَبْعَثَ إليهم مالًا، وإن عجز عنه عاد إليهم؛ لَزِمَه الوفاء لهم، إلا أن تكون امرأة فلا ترجع إليهم. وقال الخرقي: لا يرجع الرجل أيضًا.

وجملة ذلك: أن الأسير إذا أَطلَقَه الكفار وشرطوا عليه أن يبعث إليهم بفِدَائِه أو يعود إليهم وأَحْلَفوه؛ فإن كان مُكْرَهًا لم يَلْزَمْه الوفاء لهم برجوع ولا فداء؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني)، وإن لم يُكْرَه وقَدَرَ على الفِداء الذي شَرَط على نفسه لَزِمَه أداؤه. وبه قال الحسن وعطاء والزهري والنخعي والثوري والأوزاعي.

ونَصَّ الشافعي على أنه لا يلزمه لأنه حُرٌ لا يَستَحِقُّون بَدَله. ولنا: قول الله -تعالى-: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ) (النحل:91)، ولما صالح النبي -صلى الله عليه وسلم- أهل الحديبية على رد مَن جاءه مُسْلِمًا وَفَّى لهم، وقال: "إنا لا يصلح في ديننا الغدر"، ولأن في الوفاء مصلحة للأسارى، وفي الغدر مفسدة في حقهم؛ لأنهم لا يأمنون بعده، والحاجة داعية إليه؛ فلَزِمَه الوفاء كما يَلْزَمُه الوفاء بعقد الهدنة؛ ولأنه عاهدهم على أداءِ مالٍ فلَزِمَه الوفاء لهم، كثمن المبيع، والمشروط في عقد الهدنة في موضعٍ يجوز شَرْطُه.

فإن عجز عن الفداء وكانت امرأة لم ترجع إليهم، ولم يَحِلّ لها ذلك، لقول الله -تعالى-: (فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ) (الممتحنة:10)، ولأن في رجوعها تسليطٌ لهم على وطئها حَرَامًا، وقد منع اللهُ رسولَه رَدَّ النساء إلى الكفار بعد صُلْحِه على رَدِّهِنَّ في قضية الحديبية، وفيها: "ثُمَّ جَاءَ نِسْوَةٌ مُؤْمِنَاتٌ مُهَاجِرَاتٌ -الْآيَةَ- فَنَهَاهُمُ اللَّهُ أَنْ يَرُدُّوهُنَّ" (رواه أبو داود، وصححه الألباني)" (انتهى). (وإن كان الصحيح في هذه المسألة أن النساء لم يدخلن في العهد في الحديبية).

قال في الشرح الكبير: "وإن كان المُفَادَى رَجُلًا فقيه روايتان: إحداهما: لا يرجع. اختاره الخرقي، وهو قول الحسن والنخعي والثوري والشافعي، لأن الرجوع إليهم معصية، فلم يلزم بالشرط، كما لو كان امرأة، وكما لو شرط قَتْلَ مُسْلِمٍ أو شرب الخمر. والثانية: يلزمه. وهو قول عثمان والزهري والأوزاعي، لما ذكرنا في بعث الفداء، ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- عاهد قُريشًا على رد من جاءه مُسْلِمًا فَرَدَّ أبا بصير وأبا جندل، وقال: "إنا لا يصلح في ديننا الغدر".

وفارَقَ رَدَّ المرأة؛ فإن الله -تعالى- فَرَّقَ بينهما في هذا الحكم حين صالح النبي -صلى الله عليه وسلم- قريشًا على رد مَن جاءه منهم مُسْلِمًا، فأمضى الله -سبحانه- ذلك في الرجال ونَسَخَه في النساء" (انتهى). (ذكرنا أن الراجح أن النساء لم يدخلن في هذا العقد).

حكم ما اشتراه الأسير المُسْلِم:

قال في الشرح الكبير: "فصل: فإن اشترى الأسير شيئًا -مُخْتَارًا- أو اقترضه؛ فالعقد صحيح، ويلزمه الوفاء لهم، لأنه عَقْدُ مُعَاوَضَة، فأشبه ما لو فعله غيرُ الأسير. وإن كان مُكْرَهًا لم يصح، وإن أَكرَهوه على قَبْضِهِ لم يَضْمَنْه، ولكن عليه رَدّه إليهم إن كان باقيًا، لأنهم دفعوه إليه بحكم العقد، وإن قبضه باختياره ضَمِنَه، لأنه قَبَضَه باختياره عن عقدٍ فاسِدٍ، وإن باعَهُ والعينُ قائمةٌ لَزِمَه رَدُّها، وإن عُدِمت رَدَّ قيمتَها".

وقال: "فصل: وإذا اشترى المسلم أسيرًا مِن أيدي العدو -أي أسيرًا مُسْلِمًا أو ذِمِّيًا- فإن كان بإذنه لَزِمَه أن يؤدي إلى الذي اشتراه ما أداه فيه بغير خلاف نعلمه؛ لأنه إذا أَذِنَ فيه كان نائبه في شراءِ نَفْسِه، فكان الثمن على الآمر كالوكيل، وإن كان بغير إذنه لَزِمَ الأسيرُ الثمن أيضًا، وبه قال الحسن، والزهري، والنخعي، ومالك، والأوزاعي، وقال الثوري والشافعي وابن المنذر: لا يلزمه؛ لأنه تبرع بما لا يلزمه ولم يؤذن له فيه، أشبه ما لو عَمَّرَ دارَه.

ولنا: ما روى سعيد بن عثمان بن مطر، قال: حدثنا أبو حريز عن الشعبي، قال: أغار أهلُ ماه وأهل جلولاء على العرب فأصابوا سبايا مِن سبايا العرب، فكتب السائب بن الأكوع إلى عُمَر في سبايا المسلمين ورقيقهم ومتاعهم، فكَتَبَ عُمَر: "أيما رجل أصاب رقيقَهُ ومَتَاعَه بعينِه فهو أَحَقُّ به مِن غيره، وإن أصابه في أيدي التُجَّارِ بعد ما قُسِمَ فلا سبيل إليه، وأيما حر اشتراه التُجَّارُ فإنه يرد إليهم رؤوس أموالِهم، فإن الحر لا يباع ولا يشترى"، فحَكَم للتُجَّارِ برؤوس أموالهم؛ ولأن الأسير يجب عليه فِدَاء نفسه ليتَخَلَّص مِن حكم الكفار، فإذا ناب عنه غيره في ذلك وجب عليه قضاؤه، كما لو قضى الحاكم عنه حقـًّا امتنع مِن أدائه.

فعلى هذا إذا اختلفا في قدر الثمن، فالقول قول الأسير، وهو قول الشافعي، إذا أذن له، وقال الأوزاعي: القولُ قولُ المُشتَرِي؛ لأنهما اختلفا في فعله وهو أعلم به. ولنا: أن الأسير مُنْكِرٌ للزيادة، والقول قول المُنْكِر، ولأن الأصل براءة ذمته مِن الزيادة فيرجح قوله بالأصل" (انتهى).

وجوب فِدَاء أسرى المُسْلِمين وأهلِ الذِمَّة:

قال في الشرح الكبير: "فصل: ويجب فداء أسير المسلمين إذا أمكن، وبه قال عمر بن عبد العزيز ومالك وإسحاق. ويروى عن ابن الزبير أنه سأل الحسن بن علي -رضي الله عنهما-: على مَن فكاك الأسير؟ قال: "على الأرض التي يُقاتِل عليها"، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَطْعِمُوا الجَائِعَ، وَعُودُوا المَرِيضَ، وَفُكُّوا العَانِيَ) (أخرجه البخاري)، وروى سعيد بإسناده عن حبان بن أبي جبلة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن على المسلمين في فيئهم أن يُفَادُوا أسيرَهم ويُؤَدُّوا عن غارِمِهم"، و"فادى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلين مِن المسلمين بالرجل الذي أَخَذَه مِن بني عُقَيل، وفادى بالمرأة التي استَوهَبَها مِن سلمة بن الأكوع رجلين"، ويجب فداء أسير أهل الذِمَّة سواء كانوا في معونتنا أو لا، هذا ظاهر كلام الخرقي، وهو قول عمر بن عبد العزيز والليث؛ لأننا التزمنا حِفْظَهم بمُعاهَدَتِهم وأَخْذِ جِزْيَتِهم؛ فلَزِمَنا المُدافعة مِن ورائهم والقيام دونهم.

فإذا عجزنا عن ذلك وأمكننا تخليصهم لَزِمَنا ذلك، كمن يحرم عليه إتلاف شيء، فإذا أَتْلَفَه ضَمِن غُرْمَه.

وقال القاضي: إنما يجب فداؤهم إذا استعان بهم الإمام في قتالِهِم فَسُبُوا؛ وَجَب عليه ذلك؛ لأن أَسْرَهُم كان لمعنى مِن جهته، وهو المنصوص عن أحمد، ومتى وَجَب فِداؤهم فإنه يبدأ بفِدَاءِ المسلمين قبلَهم؛ لأن حرمة المسلم أعظم، والخوف عليه أشد، وهو مُعَرَّضٌ لفِتْنَتِه عن دينه الحق، بخلاف أهل الذمة" (انتهى).

ومِن كلام القاضي تعرف أن الخلاف في مسألة استعانة الإمام بأهل الذِمَّةِ في القتال خلاف في مسألةٍ فيها اجتهادٌ سائغٌ، كما سبق بيانه في مواضع أخرى، والله أعلى وأعلم.

وللحديث بقية -إن شاء الله-.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

 

تصنيفات المادة