تأملات في حجة الوداع (12)
كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله،
والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد ذكر ابن
القيم -رَحِمَهُ اللهُ- فصلًا رائعًا في "زاد المعاد" حول ظَنِّ
الجاهلية، بَيَّن فيه شمولَ ذلك لأنواعٍ مِن البِدَع الاعتقادية سواء ما يكون
كفرًا أو ما يكون بدعة.
قال -رَحِمَهُ اللهُ-: "فَمَنْ ظَنَّ
بِأَنَّهُ لَا يَنْصُرُ رَسُولَهُ، وَلَا يُتِمُّ أَمْرَهُ، وَلَا يُؤَيِّدُهُ
وَيُؤَيِّدُ حِزْبَهُ، وَيُعْلِيهِمْ وَيُظْفِرُهُمْ بِأَعْدَائِهِ،
وَيُظْهِرُهُمْ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُ لَا يَنْصُرُ دِينَهُ وَكِتَابَهُ، وَأَنّهُ
يُدِيلُ الشِّرْكَ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَالْبَاطِلَ عَلَى الْحَقِّ إدَالَةً
مُسْتَقِرَّةً يَضْمَحِلُّ مَعَهَا التَّوْحِيدُ وَالْحَقُّ اضْمِحْلَالًا لَا
يَقُومُ بَعْدَهُ أَبَدًا، فَقَدْ ظَنَّ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ، وَنَسَبَهُ
إِلَى خِلَافِ مَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ وَصِفَاتِهِ وَنُعُوتِهِ،
فَإِنَّ حَمْدَهُ وَعِزَّتَهُ وَحِكْمَتَهُ وَإِلَهِيَّتَهُ تَأْبَى ذَلِكَ،
وَتَأْبَى أَنْ يُذَلَّ حِزْبُهُ وَجُنْدُهُ، وَأَنْ تَكُونَ النُّصْرَةُ
الْمُسْتَقِرَّةُ وَالظَّفَرُ الدَّائِمُ لِأَعْدَائِهِ الْمُشْرِكِينَ بِهِ
الْعَادِلِينَ بِهِ، فَمَنْ ظَنَّ بِهِ ذَلِكَ فَمَا عَرَفَهُ وَلَا عَرَفَ
أَسَمَاءَهُ وَلَا عَرَفَ صِفَاتَهُ وَكَمَالَهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ أَنْكَرَ أَنْ
يَكُونَ ذَلِكَ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ فَمَا عَرَفَهُ وَلَا عَرَفَ
رُبُوبِيَّتَهُ وَمُلْكَهُ وَعَظَمَتَهُ.
وَكَذَلِكَ
مَنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ قَدَّرَ مَا قَدَّرَهُ مِنْ ذَلِكَ وَغَيْرِهِ
لِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ وَغَايَةٍ مَحْمُودَةٍ يَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ عَلَيْهَا،
وَأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا صَدَرَ عَنْ مَشِيئَةٍ مُجَرَّدَةٍ عَنْ حِكْمَةٍ
وَغَايَةٍ مَطْلُوبَةٍ هِي أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ فَوْتِهَا، وَأَنَّ تِلْكَ
الْأَسْبَابَ الْمَكْرُوهَةَ الْمُفْضِيَةَ إِلَيْهَا لَا يَخْرُجُ تَقْدِيرُهَا
عَنِ الْحِكْمَةِ لِإِفْضَائِهَا إِلَى مَا يُحِبُّ، وَإِنْ كَانَتْ مَكْرُوهَةً
لَهُ فَمَا قَدَّرَهَا سُدًى، وَلَا أَنْشَأَهَا عَبَثًا، وَلَا خَلَقَهَا
بَاطِلًا، (ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ
لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) (ص:27).
وَأَكْثَرُ النَّاسِ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ السَّوْءِ
فِيمَا يَخْتَصُّ بِهِمْ وَفِيمَا يَفْعَلُهُ بِغَيْرِهِمْ، وَلَا يَسْلَمُ عَنْ
ذَلِكَ إلَّا مَنْ عَرَفَ اللَّهَ وَعَرَفَ أَسْمَاءَهُ وَصِفَاتِهِ، وَعَرَفَ
مُوجِبَ حَمْدِهِ وَحِكْمَتِهِ، فَمَنْ قَنَطَ مِنْ رَحْمَتِهِ وَأَيِسَ مِنْ
رَوْحِهِ، فَقَدْ ظَنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ، وَمَنْ جَوَّزَ عَلَيْهِ أَنْ
يُعَذِّبَ أَوْلِيَاءَهُ مَعَ إحْسَانِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ وَيُسَوِّي بَيْنَهُمْ
وَبَيْنَ أَعْدَائِهِ، فَقَدْ ظَنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
وَمَنْ ظَنَّ
بِهِ أَنْ يَتْرُكَ خَلْقَهُ سُدًى مُعَطَّلِينَ عَنِ الْأَمْرِ وَالنَّهْي، وَلَا
يُرْسِلَ إلَيْهِمْ رُسُلَهُ، وَلَا يُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كُتُبَهُ، بَلْ
يَتْرُكُهُمْ هَمَلًا كَالْأَنْعَامِ، فَقَدْ ظَنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
وَمَنْ ظَنَّ
أَنَّهُ لَنْ يَجْمَعَ عَبِيدَهُ بَعْدَ مَوْتِهِمْ لِلثَّوَابِ وَالْعِقَابِ فِي
دَارٍ يُجَازِي الْمُحْسِنَ فِيهَا بِإِحْسَانِهِ وَالْمُسِيءَ بِإِسَاءَتِهِ،
وَيُبَيِّنَ لِخَلْقِهِ حَقِيقَةَ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَيُظْهِرَ
لِلْعَالَمِينَ كُلِّهِمْ صِدْقَهُ وَصِدْقَ رُسُلِهِ، وَأَنَّ أَعْدَاءَهُ
كَانُوا هُمُ الْكَاذِبِينَ، فَقَدْ ظَنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
وَمَنْ ظَنَّ
أَنَّهُ يُضَيِّعُ عَلَيْهِ عَمَلَهُ الصَّالِحَ الَّذِي عَمِلَهُ خَالِصًا
لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ عَلَى امْتِثَالِ أَمْرِهِ، وَيُبْطِلُهُ عَلَيْهِ بِلَا
سَبَبٍ مِنَ الْعَبْدِ، أَوْ أَنَّهُ يُعَاقِبُهُ بِمَا لَا صُنْعَ فِيهِ وَلَا
اخْتِيَارَ لَهُ وَلَا قُدْرَةَ وَلَا إرَادَةَ فِي حُصُولِهِ، بَلْ يُعَاقِبُهُ
عَلَى فِعْلِهِ هُوَ سُبْحَانَهُ بِهِ، أَوْ ظَنَّ بِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ عَلَيْهِ
أَنْ يُؤَيِّدَ أَعْدَاءَهُ الْكَاذِبِينَ عَلَيْهِ بِالْمُعْجِزَاتِ الَّتِي
يُؤَيِّدُ بِهَا أَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ، وَيُجْرِيَهَا عَلَى أَيْدِيهِمْ
يُضِلُّونَ بِهَا عِبَادَهُ، وَأَنَّهُ يَحْسُنُ مِنْهُ كُلُّ شَيْءٍ حَتَّى
تَعْذِيبُ مَنْ أَفْنَى عُمْرَهُ فِي طَاعَتِهِ فَيُخَلِّدُهُ فِي الْجَحِيمِ
أَسْفَلَ السَّافِلِينَ، وَيُنَعِّمُ مَنِ اسْتَنْفَدَ عُمُرَهُ فِي عَدَاوَتِهِ
وَعَدَاوَةِ رُسُلِهِ وَدِينِهِ، فَيَرْفَعُهُ إِلَى أَعْلَى عِلِّيِّينَ، وَكِلَا
الْأَمْرَيْنِ عِنْدَهُ فِي الْحُسْنِ سَوَاءٌ، وَلَا يُعْرَفُ امْتِنَاعُ
أَحَدِهِمَا وَوُقُوعُ الْآخَرِ إلَّا بِخَبَرٍ صَادِقٍ، وَإِلَّا فَالْعَقْلُ لَا
يَقْضِي بِقُبْحِ أَحَدِهِمَا وَحُسْنِ الْآخَرِ، فَقَدْ ظَنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
وَمَنْ ظَنَّ
بِهِ أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ بِمَا ظَاهِرُهُ
بَاطِلٌ وَتَشْبِيهٌ وَتَمْثِيلٌ وَتَرَكَ الْحَقَّ لَمْ يُخْبِرْ بِهِ،
وَإِنَّمَا رَمَزَ إِلَيْهِ رُمُوزًا بَعِيدَةً، وَأَشَارَ إِلَيْهِ إشَارَاتٍ
مُلْغِزَةً لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ، وَصَرَّحَ دَائِمًا بِالتَّشْبِيهِ
وَالتَّمْثِيلِ وَالْبَاطِلِ، وَأَرَادَ مِنْ خَلْقِهِ أنْ يُتْعِبُوا
أَذْهَانَهُمْ وَقُوَاهُمْ وَأَفْكَارَهُمْ فِي تَحْرِيفِ كَلَامِهِ عَنْ
مَوَاضِعِهِ، وَتَأْوِيلِهِ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ، وَيَتَطَلَّبُوا لَهُ
وُجُوهَ الِاحْتِمَالَاتِ الْمُسْتَكْرَهَةِ، وَالتَّأْوِيلَاتِ الَّتِي هِيَ
بِالْأَلْغَازِ وَالْأَحَاجِي أَشْبَهُ مِنْهَا بِالْكَشْفِ وَالْبَيَانِ،
وَأَحَالَهُمْ فِي مَعْرِفَةِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ عَلَى عُقُولِهِمْ
وَآرَائِهِمْ لَا عَلَى كِتَابِهِ، بَلْ أَرَادَ مِنْهُمْ أَنْ لَا يَحْمِلُوا
كَلَامَهُ عَلَى مَا يَعْرِفُونَ مِنْ خِطَابِهِمْ وَلُغَتِهِمْ، مَعَ قُدْرَتِهِ
عَلَى أَنْ يُصَرِّحَ لَهُمْ بِالْحَقِّ الَّذِي يَنْبَغِي التَّصْرِيحُ بِهِ،
وَيُرِيحَهُمْ مِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تُوقِعُهُمْ فِي اعْتِقَادِ الْبَاطِلِ،
فَلَمْ يَفْعَلْ بَلْ سَلَكَ بِهِمْ خِلَافَ طَرِيقِ الْهُدَى وَالْبَيَانِ،
فَقَدْ ظَنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ؛ فَإِنَّهُ إنْ قَالَ: إنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ
عَلَى التَّعْبِيرِ عَنِ الْحَقِّ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ الَّذِي عَبَّرَ بِهِ هُوَ
وَسَلَفُهُ، فَقَدْ ظَنَّ بِقُدْرَتِهِ الْعَجْزَ، وَإِنْ قَالَ: إنَّهُ قَادِرٌ
وَلَمْ يُبَيِّنْ، وَعَدَلَ عَنِ الْبَيَانِ وَعَنِ التَّصْرِيحِ بِالْحَقِّ إِلَى
مَا يُوهِمُ بَلْ يُوقِعُ فِي الْبَاطِلِ الْمُحَالِ وَالِاعْتِقَادِ الْفَاسِدِ،
فَقَدْ ظَنَّ بِحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ ظَنَّ السَّوْءِ، وَظَنَّ أَنَّهُ هُوَ
وَسَلَفُهُ عَبَّرُوا عَنِ الْحَقِّ بِصَرِيحِهِ دُونَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ،
وَأَنَّ الْهُدَى وَالْحَقَّ فِي كَلَامِهِمْ وَعِبَارَاتِهِمْ، وَأَمّا كَلَامُ
اللَّهِ فَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ ظَاهِرِهِ التَّشْبِيهُ وَالتَّمْثِيلُ
وَالضَّلَالُ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُتَهَوِّكِينَ الْحَيَارَى هُوَ الْهُدَى
وَالْحَقُّ، وَهَذَا مِنْ أَسْوَأِ الظَّنِّ بِاللَّهِ؛ فَكُلُّ هَؤُلَاءِ مِنَ
الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ، وَمِنَ الظَّانِّينَ بِهِ غَيْرَ الْحَقِّ
ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ.
وَمَنْ ظَنَّ
بِهِ أَنْ يَكُونَ فِي مُلْكِهِ مَا لَا يَشَاءُ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى إيجَادِهِ
وَتَكْوِينِهِ، فَقَدْ ظَنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
وَمَنْ ظَنَّ
بِهِ أَنَّهُ كَانَ مُعَطَّلًا مِنَ الْأَزَلِ إِلَى الْأَبَدِ عَنْ أَنْ يَفْعَلَ،
وَلَا يُوصَفُ حِينَئِذٍ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْفِعْلِ، ثُمَّ صَارَ قَادِرًا
عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا، فَقَدْ ظَنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
وَمَنْ ظَنَّ بِهِ أَنَّهُ لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ، وَلَا يَعْلَمُ
الْمَوْجُودَاتِ، وَلَا عَدَدَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا النُّجُومِ وَلَا
بَنِي آدَمَ وَحَرَكَاتِهِمْ وَأَفْعَالَهُمْ، وَلَا يَعْلَمُ شَيْئًا مِنَ
الْمَوْجُودَاتِ فِي الْأَعْيَانِ، فَقَدْ ظَنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
وَمَنْ ظَنَّ
أَنَّهُ لَا سَمْعَ لَهُ وَلَا بَصَرَ وَلَا عِلْمَ لَهُ وَلَا إرَادَةَ وَلَا
كَلَامَ يَقُولُ بِهِ، وَأَنّهُ لَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنَ الْخَلْقِ وَلَا
يَتَكَلَّمُ أَبَدًا، وَلَا قَالَ وَلَا يَقُولُ، وَلَا لَهُ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ
يَقُومُ بِهِ، فَقَدْ ظَنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
وَمَنْ ظَنَّ
بِهِ أَنَّهُ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنًا مِنْ خَلْقِهِ، وَأَنّ
نِسْبَةَ ذَاتِهِ تَعَالَى إِلَى عَرْشِهِ كَنِسْبَتِهَا إِلَى أَسْفَلِ
السّافِلِينَ، وَإِلَى الْأَمْكِنَةِ الَّتِي يُرْغَبُ عَنْ ذِكْرِهَا، وَأَنّهُ
أَسْفَلُ كَمَا أَنَّهُ أَعْلَى فَقَدْ ظَنّ بِهِ أَقْبَحَ الظّنّ وَأَسْوَأَهُ.
وَمَنْ ظَنَّ بِهِ أَنَّهُ لَيْسَ يُحِبُّ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ
وَالْعِصْيَانَ، وَيُحِبُّ الْفَسَادَ كَمَا يُحِبُّ الْإِيمَانَ وَالْبِرَّ
وَالطَّاعَةَ وَالْإِصْلَاحَ فَقَدْ ظَنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
وَمَنْ ظَنَّ
بِهِ أَنَّهُ لَا يُحِبُّ وَلَا يَرْضَى، وَلَا يَغْضَبُ وَلَا يَسْخَطُ، وَلَا
يُوَالِي وَلَا يُعَادِي، وَلَا يَقْرُبُ مِنْ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ وَلَا
يَقْرُبُ مِنْهُ أَحَدٌ، وَأَنَّ ذَوَاتَ الشَّيَاطِينِ فِي الْقُرْبِ مِنْ
ذَاتِهِ كَذَوَاتِ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ وَأَوْلِيَائِهِ الْمُفْلِحِينَ
فَقَدْ ظَنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
وَمَنْ ظَنَّ
أَنَّهُ يُسَوِّي بَيْنَ الْمُتَضَادَّيْنِ، أَوْ يُفَرِّقُ بَيْنَ
الْمُتَسَاوِيَيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، أَوْ يُحْبِطُ طَاعَاتِ الْعُمُرِ
الْمَدِيدِ الْخَالِصَةِ الصَّوَابِ بِكَبِيرَةٍ وَاحِدَةٍ تَكُونُ بَعْدَهَا،
فَيُخَلِّدُ فَاعِلَ تِلْكَ الطَّاعَاتِ فِي النَّارِ أَبَدَ الْآبِدِينَ بِتِلْكَ
الْكَبِيرَةِ، وَيُحْبِطُ بِهَا جَمِيعَ طَاعَاتِهِ، وَيُخَلِّدُهُ فِي الْعَذَابِ
كَمَا يُخَلِّدُ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَقَدِ اسْتَنْفَدَ
سَاعَاتِ عُمُرِهِ فِي مَسَاخِطِهِ وَمُعَادَاةِ رُسُلِهِ وَدِينِهِ فَقَدْ ظَنَّ
بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَمَنْ ظَنَّ بِهِ خِلَافَ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ
وَوَصَفَهُ بِهِ رُسُلُهُ، أَوْ عَطَّلَ حَقَائِقَ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ،
وَوَصَفَتْهُ بِهِ رُسُلُهُ فَقَدْ ظَنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
وَمَنْ ظَنَّ
أَنَّ لَهُ وَلَدًا أَوْ شَرِيكًا، أَوْ أَنَّ أَحَدًا يَشْفَعُ عِنْدَهُ بِدُونِ
إذْنِهِ، أَوْ أَنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ وَسَائِطَ يَرْفَعُونَ
حَوَائِجَهُمْ إلَيْهِ، أَوْ أَنَّهُ نَصَبَ لِعِبَادِهِ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ
يَتَقَرَّبُونَ بِهِمْ إلَيْهِ وَيَتَوَسَّلُونَ بِهِمْ إلَيْهِ وَيَجْعَلُونَهُمْ
وَسَائِطَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ فَيَدْعُونَهُمْ وَيُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّهِ
وَيَخَافُونَهُمْ وَيَرْجُونَهُمْ فَقَدْ ظَنَّ بِهِ أَقْبَحَ الظَّنِّ
وَأَسْوَأَهُ.
وَمَنْ ظَنَّ بِهِ أَنَّهُ يَنَالُ مَا عِنْدَهُ بِمَعْصِيَتِهِ
وَمُخَالَفَتِهِ كَمَا يَنَالُهُ بِطَاعَتِهِ وَالتَّقَرُّبِ إلَيْهِ، فَقَدْ
ظَنَّ بِهِ خِلَافَ حِكْمَتِهِ وَخِلَافَ مُوجِبِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَهُوَ
مِنْ ظَنِّ السَّوْءِ.
وَمَنْ ظَنَّ
بِهِ أَنَّهُ إذَا تَرَكَ لِأَجْلِهِ شَيْئًا لَمْ يُعَوِّضْهُ خَيْرًا مِنْهُ
أَوْ مَنْ فَعَلَ لِأَجْلِهِ شَيْئًا لَمْ يُعْطِهِ أَفْضَلَ مِنْهُ، فَقَدْ ظَنَّ
بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
وَمَنْ ظَنَّ
بِهِ أَنَّهُ يَغْضَبُ عَلَى عَبْدِهِ وَيُعَاقِبُهُ وَيَحْرِمُهُ بِغَيْرِ جُرْمٍ
وَلَا سَبَبٍ مِنَ الْعَبْدِ إلَّا بِمُجَرَّدِ الْمَشِيئَةِ وَمَحْضِ
الْإِرَادَةِ فَقَدْ ظَنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
وَمَنْ ظَنَّ
بِهِ أَنَّهُ إذَا صَدَقَهُ فِي الرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ، وَتَضَرَّعَ إلَيْهِ
وَسَأَلَهُ، وَاسْتَعَانَ بِهِ وَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ أَنَّهُ يُخَيِّبُهُ وَلَا
يُعْطِيهِ مَا سَأَلَهُ، فَقَدْ ظَنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ، وَظَنَّ بِهِ خِلَافَ
مَا هُوَ أَهْلُهُ.
وَمَنْ ظَنَّ بِهِ أَنَّهُ يُثِيبُهُ إذَا عَصَاهُ بِمَا يُثِيبُهُ بِهِ إذَا
أَطَاعَهُ، وَسَأَلَهُ ذَلِكَ فِي دُعَائِهِ فَقَدْ ظَنَّ بِهِ خِلَافَ مَا
تَقْتَضِيهِ حِكْمَتُهُ وَحَمْدُهُ وَخِلَافَ مَا هُوَ أَهْلُهُ وَمَا لَا
يَفْعَلُهُ.
وَمَنْ ظَنَّ
بِهِ أَنَّهُ إذَا أَغْضَبَهُ وَأَسْخَطَهُ، وَأَوْضَعَ فِي مَعَاصِيهِ ثُمَّ
اتَّخَذَ مِنْ دُونِهِ وَلِيًّا، وَدَعَا مِنْ دُونِهِ مَلَكًا أَوْ بَشَرًا
حَيًّا أَوْ مَيِّتًا يَرْجُو بِذَلِكَ أَنْ يَنْفَعَهُ عِنْدَ رَبِّهِ
وَيُخَلِّصَهُ مِنْ عَذَابِهِ، فَقَدْ ظَنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ، وَذَلِكَ
زِيَادَةٌ فِي بُعْدِهِ مِنَ اللَّهِ وَفِي عَذَابِهِ.
وَمَنْ ظَنَّ
بِهِ أَنَّهُ يُسَلِّطُ عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أَعْدَاءَهُ تَسْلِيطًا مُسْتَقِرًّا دَائِمًا فِي حَيَاتِهِ وَفِي
مَمَاتِهِ، وَابْتَلَاهُ بِهِمْ لَا يُفَارِقُونَهُ، فَلَمَّا مَاتَ اسْتَبَدُّوا
بِالْأَمْرِ دُونَ وَصِيَّةٍ وَظَلَمُوا أَهْلَ بَيْتِهِ، وَسَلَبُوهُمْ حَقَّهُمْ
وَأَذَلُّوهُمْ، وَكَانَتِ الْعِزَّةُ وَالْغَلَبَةُ وَالْقَهْرُ لِأَعْدَائِهِ
وَأَعْدَائِهِمْ دَائِمًا مِنْ غَيْرِ جُرْمٍ وَلَا ذَنْبٍ لِأَوْلِيَائِهِ
وَأَهْلِ الْحَقِّ، وَهُوَ يَرَى قَهْرَهُمْ لَهُمْ وَغَصْبَهُمْ إِيَّاهُمْ
حَقَّهُمْ وَتَبْدِيلَهُمْ دِينَ نَبِيِّهِمْ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى نُصْرَةِ
أَوْلِيَائِهِ وَحِزْبِهِ وَجُنْدِهِ، وَلَا يَنْصُرُهُمْ وَلَا يُدِيلُهُمْ، بَلْ
يُدِيلُ أَعْدَاءَهُمْ عَلَيْهِمْ أَبَدًا، أَوْ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى
ذَلِكَ بَلْ حَصَلَ هَذَا بِغَيْرِ قُدْرَتِهِ وَلَا مَشِيئَتِهِ، ثُمَّ جَعَلَ
الْمُبَدِّلِينَ لِدِينِهِ مُضَاجِعِيهِ فِي حُفْرَتِهِ تُسَلِّمُ أُمَّتُهُ
عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ كُلَّ وَقْتٍ كَمَا تَظُنُّهُ الرَّافِضَةُ، فَقَدْ ظَنَّ
بِهِ أَقْبَحَ الظَّنِّ وَأَسْوَأَهُ، سَوَاءٌ قَالُوا: إنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ
يَنْصُرَهُمْ وَيَجْعَلَ لَهُمُ الدَّوْلَةَ وَالظَّفَرَ، أَوْ أَنَّهُ غَيْرُ
قَادِرٍ عَلَى ذَلِكَ فَهُمْ قَادِحُونَ فِي قُدْرَتِهِ أَوْ فِي حِكْمَتِهِ وَحَمْدِهِ،
وَذَلِكَ مِنْ ظَنِّ السَّوْءِ بِهِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الرَّبَّ الَّذِي فَعَلَ
هَذَا بَغِيضٌ إِلَى مَنْ ظَنَّ بِهِ ذَلِكَ غَيْرُ مَحْمُودٍ عِنْدَهُمْ، وَكَانَ
الْوَاجِبُ أَنْ يَفْعَلَ خِلَافَ ذَلِكَ، لَكِنْ رَفَوْا هَذَا الظَّنَّ
الْفَاسِدَ بِخَرْقٍ أَعْظَمَ مِنْهُ، وَاسْتَجَارُوا مِنَ الرَّمْضَاءِ
بِالنَّارِ، فَقَالُوا: لَمْ يَكُنْ هَذَا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، وَلَا لَهُ
قُدْرَةٌ عَلَى دَفْعِهِ وَنَصْرِ أَوْلِيَائِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى
أَفْعَالِ عِبَادِهِ، وَلَا هِيَ دَاخِلَةٌ تَحْتَ قُدْرَتِهِ، فَظَنُّوا بِهِ
ظَنَّ إخْوَانِهِمُ الْمَجُوسِ وَالثَّنَوِيَّةِ بِرَبِّهِمْ، وَكُلِّ مُبْطِلٍ
وَكَافِرٍ وَمُبْتَدِعٍ مَقْهُورٍ مُسْتَذَلٍّ، فَهُوَ يَظُنُّ بِرَبِّهِ هَذَا
الظَّنَّ وَأَنَّهُ أَوْلَى بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ وَالْعُلُوِّ مِنْ خُصُومِهِ.
فَأَكْثَرُ الْخَلْقِ -بَلْ كُلُّهُمْ إلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ- يَظُنُّونَ
بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ السَّوْءِ؛ فَإِنَّ غَالِبَ بَنِي آدَمَ
يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مَبْخُوسُ الْحَقِّ نَاقِصُ الْحَظِّ، وَأَنّهُ يَسْتَحِقُّ
فَوْقَ مَا أَعْطَاهُ اللَّهُ، وَلِسَانُ حَالِهِ يَقُولُ: ظَلَمَنِي رَبِّي
وَمَنَعَنِي مَا أَسْتَحِقُّهُ! وَنَفْسُهُ
تَشْهَدُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، وَهُوَ بِلِسَانِهِ يُنْكِرُهُ، وَلَا يَتَجَاسَرُ
عَلَى التَّصْرِيحِ بِهِ، وَمَنْ فَتَّشَ نَفْسَهُ وَتَغَلْغَلَ فِي مَعْرِفَةِ
دَفَائِنِهَا وَطَوَايَاهَا رَأَى ذَلِكَ فِيهَا كَامِنًا كُمُونَ النَّارِ فِي
الزِّنَادِ، فَاقْدَحْ زِنَادَ مَنْ شِئْتَ يُنْبِئْكَ شَرَارُهُ عَمَّا فِي
زِنَادِهِ، وَلَوْ فَتَّشْتَ مَنْ فَتَّشْتَهُ لَرَأَيْتَ عِنْدَهُ تَعَتُّبًا
عَلَى الْقَدَرِ وَمَلَامَةً لَهُ وَاقْتِرَاحًا عَلَيْهِ خِلَافَ مَا جَرَى بِهِ،
وَأَنّهُ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَذَا وَكَذَا، فَمُسْتَقِلٌّ
وَمُسْتَكْثِرٌ، وَفَتِّشْ نَفْسَكَ هَلْ أَنْتَ سَالِمٌ مِنْ ذَلِكَ.
فَإِنْ تَنْجُ مِنْهَا تَنْجُ مِنْ ذِي عظيمَةٍ
وَإِلَّا فــــَإِنـِّي لَا إِخـــَالُـكُ نـَاجِـــيـًا
فَلْيَعْتَنِ
اللَّبِيبُ النَّاصِحُ لِنَفْسِهِ بِهَذَا الْمَوْضِعِ، وَلْيَتُبْ إِلَى اللَّهِ
-تَعَالَى-، وَلِيَسْتَغْفِرْهُ كُلَّ وَقْتٍ مِنْ ظَنِّهِ بِرَبِّهِ ظَنَّ
السَّوْءِ" (زاد المعاد في هدي خير العباد 3/ 205-211).
موقع أنا السلفي
www.anasalafy.com