الثلاثاء، ١٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ١٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

مظاهر القسوة في مجتمعاتنا (44) آيات من القرآن في ذم القسوة (22)

مظاهر القسوة في مجتمعاتنا (44) آيات من القرآن في ذم القسوة (22)
ياسر برهامي
السبت ١٩ سبتمبر ٢٠٢٠ - ١٦:٥١ م
445

مظاهر القسوة في مجتمعاتنا (44) آيات من القرآن في ذم القسوة (22)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

قال الله -تعالى-: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ . اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (الحديد:16-17).

قال ابن كثير -رحمه الله تعالى-: "يقول الله -تعالى- أمَا آن للمؤمنين أن تخشع قلوبهم لذكر الله، أي: تلين عند الذكر والموعظة، وسماع القرآن؛ فتفهمه، وتنقاد له، وتسمع له، وتطيعه.

روى عبد الله بن المبارك بسنده عن ابن عباس أنه قال: إن الله استبطأ قلوب المهاجرين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة من نزول القرآن، فقال: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ) الآية، رواه ابن أبي حاتم. ثم روى هو ومسلم عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ) الآية، إلا أربع سنين"، وأخرجه النسائي وابن ماجه عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه، مثله.

وقال سفيان الثوري عن المسعودي عن القاسم قال: مَلَّ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَلَّةً، فقالوا: حدثنا يا رسول الله. فأنزل الله -تَعَالَى-: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) (يوسف:٣)، قَالَ: ثُمَّ مَلُّوا مَلَّةً فَقَالُوا: حَدِّثْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ -تَعَالى-: (اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) (الزُّمَرِ:٢٣)، ثُمَّ مَلُّوا مَلَّةً فَقَالُوا: حَدِّثْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ -تعالى-: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ).

وقال قتادة: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ) ذُكر لنا أنَّ شدَّاد بن أَوْس كان يروي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ أوَّل مَا يُرْفعُ مِنَ النَّاس الخُشُوعُ".

وقوله: (وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ): نهى الله المؤمنين أن يتشبهوا بالذين حملوا الكتاب قبلهم مِن اليهود والنصارى، لمَّا تطاول عليهم الأمد بدَّلوا كتاب الله الذي بأيديهم، واشتروا به ثمنًا قليلًا ونبذوه وراء ظهورهم، وأقبلوا على الآراء المختلفة والأقوال المؤتفكة، وقلدوا الرجال في دين الله، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله؛ فعند ذلك قست قلوبهم فلا يقبلون موعظة، ولا تلين قلوبهم بوعدٍ ولا وعيدٍ.

(وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ) أي: في الأعمال، فقلوبهم فاسدة، وأعمالهم باطلة، كما قال -تعالى-: (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) (المائدة:13)، أي: فسدت قلوبهم؛ فقست وصار مِن سجيتهم تحريف الكلم عن مواضعه، وتركوا الأعمال التي أمروا بها، وارتكبوا ما نهوا عنه؛ ولهذا نهى الله المؤمنين أن يتشبهوا بهم في شيء من الأمور الأصلية والفرعية.

وقد روى ابن أبي حاتم عن الربيع بن أبي عَمِيلَة الفَزَارِيِّ قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ حَدِيثًا مَا سَمِعْتُ أَعْجَبَ إليَّ مِنْهُ، إِلَّا شَيْئًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ -أَوْ: شَيْئًا قَالَهُ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا طَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمُ اخْتَرَعُوا كِتَابًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ، اسْتَهْوَتْهُ قُلُوبُهُمْ وَاسْتَحَلَّتْهُ أَلْسِنَتُهُمْ وَاسْتَلَذَّتْهُ، وَكَانَ الْحَقُّ يَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ كَثِيرٍ مِنْ شَهَوَاتِهِمْ فَقَالُوا: تَعَالَوْا ندع بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى كِتَابِنَا هَذَا، فَمَنْ تَابَعَنَا عَلَيْهِ تَرَكْنَاهُ، وَمَنْ كَرِهَ أَنْ يُتَابِعَنَا قَتَلْنَاهُ. فَفَعَلُوا ذَلِكَ، وَكَانَ فِيهِمْ رِجُلٌ فَقِيهٌ، فَلَمَّا رَأَى مَا يَصْنَعُونَ عَمَدَ إِلَى مَا يَعْرِفُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَكَتَبَهُ فِي شَيْءٍ لَطِيفٍ، ثُمَّ أَدْرَجَهُ، فَجَعَلَهُ فِي قَرْنٍ ثُمَّ عَلَّقَ ذَلِكَ الْقَرْنَ فِي عُنُقِهِ، فَلَمَّا أَكْثَرُوا الْقَتْلَ، قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: يَا هَؤُلَاءِ، إِنَّكُمْ قَدْ أَفْشَيْتُمُ الْقَتْلَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَادْعُوا فُلَانًا فَاعْرِضُوا عَلَيْهِ كِتَابَكُمْ، فَإِنَّهُ إِنْ تَابَعَكُمْ فَسَيُتَابِعُكُمْ بَقِيَّةُ النَّاسِ، وَإِنْ أَبَى فَاقْتُلُوهُ. فَدَعَوْا فُلَانًا ذَلِكَ الْفَقِيهَ فَقَالُوا: تُؤْمِنُ بِمَا فِي كِتَابِنَا؟ قَالَ: وَمَا فِيهِ؟ اعْرِضُوهُ عليَّ. فَعَرَضُوهُ عَلَيْهِ إِلَى آخِرِهِ، ثُمَّ قَالُوا: أَتُؤْمِنُ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، آمَنْتُ بِمَا فِي هَذَا وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الْقَرْنِ فَتَرَكُوهُ، فَلَمَّا مَاتَ نَبَشُوهُ فَوَجَدُوهُ مُتَعَلِّقًا ذَلِكَ الْقَرْنَ، فَوَجَدُوا فِيهِ مَا يَعْرِفُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: يَا هَؤُلَاءِ، مَا كُنَّا نَسْمَعُ هَذَا أَصَابَهُ فِتْنَةٌ. فَافْتَرَقَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَخَيْرُ ملَلهم مِلَّةُ أَصْحَابِ ذِي الْقَرْنِ".

قال ابن مسعود: وَإِنَّكُمْ أَوْشَكَ بِكُمْ إِنْ بَقِيتُمْ -أَوْ بَقِيَ مَنْ بَقِيَ مِنْكُمْ- أَنْ تَرَوْا أُمُورًا تُنْكِرُونَهَا، لَا تَسْتَطِيعُونَ لَهَا غِيَرًا، فَبِحَسْبِ الْمَرْءِ مِنْكُمْ أَنْ يَعْلَمَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِهِ أَنَّهُ لَهَا كَارِهٌ...

وقوله: (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ): فيه إشارة إلى أنه -تعالى- يلين القلوب بعد قسوتها، ويهدي الحيارى بعد ضلّتها، ويفرج الكروب بعد شدتها، فكما يحيي الأرض الميتة المجدبة الهامدة بالغيث الهتَّان (أي: الوابل)، كذلك يهدي القلوب القاسية ببراهين القرآن والدلائل، ويولج إليها النور بعد ما كانت مقفلة لا يصل إليها الواصل، فسبحان الهادي لمن يشاء بعد الإضلال، والمضل لمن أراد بعد الكمال، الذي هو لما يشاء فعَّال، وهو الحَكَم العدل في جميع الفِعَال، اللطيف الخبير الكبير المتعال" (انتهى من تفسير ابن كثير).

وجاء في تفسير الطبري -رحمه الله- في تفسير قوله -تعالى-: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ . اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (الحديد:16-17): "يقول تعالى ذكره: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا): ألم يحن للذين صدَّقوا الله ورسوله أن تلين قلوبهم لذكر الله، فتخضع قلوبهم له، ولما نـزل من الحقّ، وهو هذا القرآن الذي نـزَّله على رسوله -صلى الله عليه وسلم-.

- ذكر مَن قال ذلك:

قال ابن عباس: قوله: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ) قال: تطيع قلوبهم.

وقال عكرِمة: قوله: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ) قال: ألم يحن للذين آمنوا.

واختلفت القرّاء في قراءة قوله: (وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ)؛ فقرأته عامة القرّاء -غير شيبة ونافع- بالتشديد: "نَـزَّل"، وقرأه شيبة ونافع: "وما نَـزَلَ" بالتخفيف، وبأيّ القراءتين قرأ القارئ فمصيب؛ لتقارب مَعْنَيَيْهِمَا.

وقوله: (وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ): يقول -تعالى ذكره-: ألم يأن لهم أنْ لَّا يكونوا -يعني الذين آمنوا مِن أمة محمد صلى الله عليه وسلم- (كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ) يعني مِن بني إسرائيل، ويعني بالكتاب: الذي أوتوه مِن قبلهم: التوراة والإنجيل.  

- ذكر مَن قال ذلك:

حدثنا ابن حُميد، بسنده عن إبراهيم، قال: جاء عتريس بن عُرقوب إلى ابن مسعود، فقال: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، هَلَكَ مَن لم يأمر بالمعروف وينهى عَنِ الْمُنْكَرِ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: هَلَكَ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ قلبُه مَعْرُوفًا وَلَمْ يُنْكِرْ قلبُه مُنْكَرًا؛ إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا طَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ وَقَسَتْ قُلُوبُهُمُ، اخْتَرَعُوا كِتَابًا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلِهِمُ، اسْتَهْوَتْهُ قُلُوبُهُمْ وَاسْتَحَلَّتْهُ أَلْسِنَتُهُمْ، وَقَالُوا: نَعْرِضُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ هَذَا الْكِتَابَ فَمَنْ آمَنَ بِهِ تَرَكْنَاهُ، وَمَنْ كَفَرَ بِهِ قَتَلْنَاهُ. قَالَ: فَجَعَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ كِتَابَ اللَّهِ فِي قَرْن، ثُمَّ جَعَلَ الْقَرْنَ بَيْنَ ثَنْدُوَتَيْهِ فَلَمَّا قِيلَ لَهُ: أَتُؤْمِنُ بِهَذَا؟ قَالَ آمَنْتُ بِهِ -وَيُومِئُ إِلَى الْقَرْنِ بَيْنَ ثَنْدُوتيه- وَمَالِي لَا أُؤْمِنُ بِهَذَا الْكِتَابِ؟ فَمِنْ خَيْرِ مِلَلِهم الْيَوْمَ مِلَّة صَاحِبِ القَرن.

ويعني بقوله: (فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ): ما بينهم وبين موسى -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-، وذلك الأمد الزمان.

- ذكر من قال ذلك:

قال مجاهد: قوله: (الأمَدُ) الدهر.

وقوله: (فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) عن الخيرات، واشتدّت على السكون إلى معاصي الله.

(وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ)، يقول الله -جلّ ثناؤه-: وكثير مِن هؤلاء الذين أوتوا الكتاب، مِن قبل أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- فاسقون.

يقول الله -تعالى ذكره-: (اعْلَمُوا) أيها الناس (أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأرْضَ) الميتة التي لا تنبت شيئًا، (بَعْدَ مَوْتِهَا) يعني: بعد دثورها ودروسها، يقول: وكما نحيي هذه الأرض الميتة بعد دروسها، كذلك نهدي الإنسان الضَّالَّ عن الحق إلى الحق، فنوفِّقه ونسدِّده للإيمان حتى يصير مؤمنًا مِن بعد كفره، ومهتديًا مِن بعد ضلاله.

وقوله: (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) يقول: قد بيَّنا لكم الأدلة والحجج لتعقلوا.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

تصنيفات المادة