الثلاثاء، ١٠ رمضان ١٤٤٥ هـ ، ١٩ مارس ٢٠٢٤
بحث متقدم

لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ

لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ
طلعت مرزوق
الأربعاء ٣١ مارس ٢٠٢١ - ٠٩:٢١ ص
334

لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ

كتبه/ طلعت مرزوق

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد قال الإمام ابن جرير الطبري -رحمه الله-: "يقول -تعالى- ذكره-: لا سائل يسأل ربَّ العرش عن الذي يفعل بخـلقه مِن تصريفهم فـيـما شاء من حياة وموت، وإعزاز وإذلال، وغير ذلك من حكمه فـيهم؛ لأنهم خـلقه وعبـيده، وجميعهم فـي ملكه وسلطانه، والـحكم حكمه، والقضاء قضاؤه، لا شيء فوقه يسأله عما يفعل، فـيقول: له لـِمَ فعلت؟ ولـمَ لـمْ تفعل؟!

(وَهُمْ يُسْئَلُونَ) يقول -جلَّ ثناؤه-: وجميع مَن فـي السموات والأرض مِن عبـاده مسؤولون عن أفعالهم، ومـحاسبون علـى أعمالهم، وهو الذي يسألهم عن ذلك ويحاسبهم علـيه؛ لأنه فوقهم ومالكهم، وهم فـي سلطانه.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل؛ فذكر عن قتادة قال: لا يُسئل عما يفعل بعبـاده، وهم يُسئلون عن أعمالهم. وعن ابن جريج قال: لا يُسئل الـخالق عن قضائه فـي خـلقه، وهو يَسأل الـخـلق عن عملهم. وعن الضحاك قال: لا يُسئل الـخالق عما يقضي فـي خـلقه، والـخـلق مسؤولون عن أعمالهم" (تفسير الطبري).

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله-: "(لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ): لعظمته وعزته، وكمال قدرته، لا يقدر أحدٌ أن يُمانعه أو يُعارضه، لا بقول، ولا بفعل، ولكمال حكمته ووضعه الأشياء مواضعها وإتقانها، أحسن كل شيء يقدره العقل، فلا يتوجه إليه سؤال؛ لأن خلقه ليس فيه خلل ولا إخلال.

(وَهُمْ) أي: المخلوقون كلهم (يُسْأَلُونَ) عن أفعالهم وأقوالهم، لعجزهم وفقرهم، ولكونهم عبيدًا، قد استحقت أفعالهم وحركاتهم، فليس لهم من التصرف والتدبير في أنفسهم، ولا في غيرهم مثقال ذرة" (تفسير السعدي).

قال الشوكاني -رحمه الله-: "وقيل: إن المعنى أنه -سبحانه- لا يُؤاخذ على أفعاله، وهم يُؤاخذون.

قيل: والمراد بذلك أنه -سبحانه- بيَّن لعباده أن مَن يُسأل عن أعماله: كالمسيح، والملائكة لا يصلح لأن يكون إلهًا" (فتح القدير).

وقال البيضاوي: "والضمير: (وَهُمْ) للآلهة أو للعباد" (تفسير البيضاوي).  

قال الألوسي -رحمه الله-: "والظاهر أن المراد عموم النفي جميع الأزمان، أي لا يُسأل -سبحانه- في وقتٍ مِن الأوقات عما يفعل، وخصَّ ذلك الزجاج بيوم القيامة، والأول أولى، وإن كان أمر الوعيد على هذا أظهر" (روح المعاني).

قال ابن عاشور -رحمه الله-: "والسؤال هنا بمعنى المحاسبة، وطلب بيان سبب الفعل، وإبداء المعذرة عن فعل بعض ما يُفعل، وتخلُّص مِن ملام أو عتاب على ما يفعل. وهو مثل السؤال في الحديث: (كُلُّكُمْ رَاعٍ و كُلُّكُمْ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ) (متفق عليه)... وليس المقصود هنا نفي سؤال الاستشارة، أو تطلب العلم كما في قوله -تعالى-: (قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ) (البقرة:30)، ولا سؤالَ الدعاء، ولا سؤال الاستفادة والاستنباط، مثل: أسئلة المتفقهين أو المتكلمين عن الحِكَم المبثوثة في الأحكام الشرعية، أو في النظم الكونية؛ لأن ذلك استنباط وتتبع وليس مباشرةً بسؤال الله -تعالى-، ولا لتطلب مُخَلِّص مِن مَلَام...

قال: وتُستخرج من جملة: (لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) كنايةٌ عن جريان أفعال الله -تعالى- على مقتضى الحكمة بحيث إنها لا مجال فيها لانتقاد منتقدٍ إذا أتقن الناظر التدبُّر فيها، أو كُشِف له عما خَفِي منها" (التحرير والتنوير).

قال ابن تيمية -رحمه الله-: "(لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) لَا لِمُجَرَّدِ قُدْرَتِهِ وَقَهْرِهِ، بَلْ لِكَمَالِ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَحِكْمَتِه" (مجموع الفتاوى).

قلتُ: فأما كمال علمه؛ فلأنه -سبحانه-: (قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) (الطلاق:12).

فعلم ماكان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، كما قال -تعالى-: (وَلَو تَواعَدتُم لَاختَلَفتُم فِي الميعادِ) (الأنفال:42)، وقال: (وَلَو رُدّوا لَعادوا لِما نُهوا عَنهُ) (الأنعام:28).

وأما قدرته الشاملة، ومشيئته النافذة -سبحانه- فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فالسبب في عدم وجود الشيء هو عدم مشيئة الله سبحانه و-تعالى- إيجاده، لا أنه عجز عنه: (وَمَا كَانَ اللَّـهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا) (فاطر:44).

وقال -تعالى-: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) (يس:82)، وأما كمال حكمته ورحمته فهو سبحانه حكيم، لا يفعل شيئًا عبثًا، ولا بغير معنى ومصلحة، (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) (الأنعام:18).

قال ابن القيم -رحمه الله- في شفاء العليل: "والحق الذي لا يجوز غيره هو أنه -سبحانه- يفعل بمشيئته وقدرته وإرادته، ويفعل ما يفعل بأسباب وحكم وغايات محمودة، وقد أودع العالَم مِن القوى والغرائز ما به قام الخلق والأمر، وهذا قول جمهور أهل الإسلام، وأكثر طوائف النظار وهو قول الفقهاء قاطبة".

وقد أمر -سبحانه- بالعدل: (إِنَّ اللَّـهَ يَأمُرُ بِالعَدلِ) (النحل:90)، (وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) (النساء:58)، (‌وَإِذَا ‌قُلْتُمْ ‌فَاعْدِلُوا ‌وَلَوْ ‌كَانَ ‌ذَا ‌قُرْبَى وَبِعَهْدِ) (الأنعام:152)، وفي الحديث المتفق عليه: (فَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ يَعْدِلْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ).

وحرَّم الظلم على نفسه، وجعله بين الناس مُحرَّمًا: (‌يَا ‌عِبَادِي ‌إِنِّي ‌حَرَّمْتُ ‌الظُّلْمَ ‌عَلَى ‌نَفْسِي، ‌وَجَعَلْتُهُ ‌بَيْنَكُمْ ‌مُحَرَّمًا، ‌فَلَا ‌تَظَالَمُوا) (رواه مسلم). وقال -تعالى-: (إِنَّ اللَّـهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) (النساء:40).

قال الإمام الطحاوي -رحمه الله-: "يهدي مَن يشاء، ويعصم ويعافي فضلًا، ويضل مَن يشاء، ويخذل ويبتلي عدلًا" (الطحاوية).

وأما كمال رحمته، فقد وسعت كل شيء: (وَرَحمَتي وَسِعَت كُلَّ شَيءٍ) (الأعراف:156)، فسبحانه حليم لا يعجل، يُمهل عباده، ولا يعاجلهم بعقابه، مع قدرته عليهم، سبقت رحمته غضبه، وفي الحديث المتفق عليه: (لَمَّا قَضَى اللَّهُ الخَلْقَ، كَتَبَ عِنْدَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي)؛ يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويفرح بتوبة مَن تاب إليه وأناب.

ومظاهر رحمته -عز وجل- بادية لكل ذي بصيرة: (لَا يُكَلِّفُ اللَّـهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (البقرة:286).

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

تصنيفات المادة

ربما يهمك أيضاً