السبت، ١٩ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٧ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (147) اجتباء الله لإبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف صلى الله عليهم وسلم (3)

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (147) اجتباء الله لإبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف صلى الله عليهم وسلم (3)
الاثنين ٠١ يناير ٢٠٢٤ - ١١:١٢ ص
51

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (147) اجتباء الله لإبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف صلى الله عليهم وسلم (3)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

قوله -تعالى-: (‌وَكَذَلِكَ ‌يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(يوسف: 6).

الفائدة الثالثة:

في قول يعقوب -عليه السلام-: (وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ)؛ ذَكَر يعقوب نفسه باسمه وليس بضمير المتكلم المعتاد في مثل هذا المقام، وتجد في ذلك التواضع لله، والاعتراف بفضله، وشهود الفضل عليه؛ لاجتباء أحدٍ من ذريته للنبوة والرسالة، وهذا فضل ونعمة على الأسرة كلها.

وذكر اسم يعقوب الذي سُمِّي به في صغره دون ذكر إسرائيل الذي سُمِّي به في كبره بعد جهاده في الله، وتضحيته، وصبره وغلبته لنفسه (اليهود عليهم لعائن الله المتتابعة يعتقدون أن اسم إسرائيل أنعم الله به على يعقوب بعد أن أمسك بالرب من حقويه وصرعه! تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا، فهو عندهم إسراعئيل أي: الذي صرع الرب، وإنما معناه: عبد الله الذي صَرَع نفسه لله، أو مِن إسرا أي: الذي يسري بالليل، فهو الذي سار الى الله بعبادته، والله أعلى وأعلم. وقصة صرع الرب صرع يعقوب للرب موجودة في التوراة المحرَّفة)، وهذا والله أعلم تواضعًا لله -سبحانه وتعالى-.

وقوله -تعالى- عن يعقوب -عليه السلام-: (إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ): إن الإيمان بالأسماء والصفات أساس التوحيد والمعرفة، ونجد هنا التربية الإيمانية على التعلُّق بالأسماء والصفات، واستحضار أثرها، وذكر هنا ثلاثة أسماء لله -سبحانه وتعالى-: (الرب والعليم والحكيم).

وذكر اسم الرب مضافًا إلى ضمير المخاطب المفرد؛ ليرى في نفسه خصوصية التعلُّق، وشهود الإصلاح الخاص، فالرب هو الذي يرب مربوبه؛ أي: يصلحه ويقوم على شأنه، والله -سبحانه- يخص أنبياؤه ورسله، ثم أولياءه بأنواع من العناية والإصلاح، ويصبغ عليهم من النعم والفضل ما لا يسبغه على غيرهم، فإذا استشعر العبد ذلك؛ عظمت عنده النعمة، وتعلق قلبه بربه تعلقًا خاصًّا؛ حبًّا وشوقًا ورجاءً، يختلف عن تعلق سائر الخلق، فإن النعمة الدينية أعظم من النعمة الدنيوية: (‌وَأَنْزَلَ ‌اللَّهُ ‌عَلَيْكَ ‌الْكِتَابَ ‌وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا(النساء: 113).

فامتن على رسوله -سبحانه وتعالى- بإنزال الكتاب والحكمة، وهي السنة، وما في الكتاب من الحكم، وامتن عليه بتعليمه ما لم يكن يعلم؛ فهذا فضل الله الأعظم.

والرب أيضًا المالك لمربوبه، وإذا استشعر العبد أنه مملوك مختص بمزيد فضل مالكه مهيأ معدٌّ لأمر لم يهيأ له غيره من المماليك؛ ربأ بنفسه أن يضيعها، أو يرضى لها بأن يملكها غير مالكها بأن يملكها غير مالكها الحق، ولم يرضَ بعبودية غير ربِّه ومولاه.

والرب أيضًا السيد الآمر الناهي المطاع، وفي هذا يشهد المؤمن أن أوامر ربه ونواهيه له هو، وهو المقصود بها قبل غيره ممَّن حوله، وأن طاعته هي المقصودة، وهذا يجعله أشد حرصًا على التزام الأمر واجتناب النهي، والمداومة على الطاعة.

واسم العليم في هذا الموطن يقتضي شهود علمه بمن يصلح للاجتباء، فهو أعلم حيث يجعل رسالته، وأعلم بالشاكرين، وأعلم بكيفية تدبير أمر عبده المؤمن حتى يوصله إلى غايته المحمودة، وأعلم بما في قلوب عباده، فيقدر أمره الغالب بعلمه الأول الموصوف به أزلًا -سبحانه-.

وإذا استحضر العبد أن الله -عز وجل- عليم بشأنه كله، وشأن مَن حوله؛ أحسن التفويض لله -سبحانه وتعالى-، وكفاه اطلاع الرب -عز وجل- عليه؛ ليستغني بذلك عن علم الناس بحاله، أو نظرهم إليه، وهذا أكمل في الإخلاص، وأكمل في تحقيق كمال الافتقار إلى الله -سبحانه وتعالى-؛ لأنه يكتفي بعلم الله عن علم البشر بحاله، أو ما هو عليه من خير، أو ما يفعله من الطاعات بينه وبين الله.

واسمه الحكيم: بمعنى الذي لا يفعل، ولا يشرع شيئًا؛ إلا لحكمة وغاية محمودة، فهو يضع الأشياء في مواضعها، وإذا اجتبى عبدًا وعلَّمه ومَنَّ عليه بما لا يمنُّ عليه غيره؛ فلأنه أهل لذلك، فهو أعلم بخلقه، ويفعل فيهم مقتضى الحكمة التي يستحق الحمد عليها، كما أن شرعه -عز وجل- كله حكمة، وأوامره الشرعية لعباده المؤمنين فيها مصالحهم في دينهم ودنياهم، وهذا كله يقتضي التسليم لشرعه، والرضا به سبحانه- وعنه ربًّا مدبِّرًا قادرًا، لا يتهمه في قضائه، ولا يعقب عليه في حكمه، وإن غابت عنه الحكمة في مبادئ الأمور، فليوقن بها، فما يخلو قضاؤه عنها أبدًا، وليصبر لأمره فسيرى العجب، وليواظب على الحمد والتفويض، والتوكل.

وللحديث بقية -إن شاء الله-.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

تصنيفات المادة