الجمعة، ٢٥ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٠٣ مايو ٢٠٢٤
بحث متقدم

علامات المحبة (1)

علامات المحبة (1)
الأربعاء ٠٨ سبتمبر ٢٠١٠ - ١٥:٥٣ م
9

علامات المحبة (1)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

قال ابن القيم -رحمه الله- في بيان علامات المحبة:

"تالله ما هزلت فيستامها المفلسون، ولا كسدت فيبيعها بالنسيئة المعسرون، لقد أقيمت للعرض في سوق من يزيد، فلم يُرضَ لها بثمن دون بذل النفوس، فتأخر البطَّالون، وقام المحبون ينظرون أيهم يصلح أن يكون ثمنًا، فدارت السلعة بينهم ووقعت في يد (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) (المائدة: 54).

لما كثر المدعون للمحبة طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى، فتنوع المدعون في الشهود، فقيل: لا تقبل هذه الدعوى إلا ببينة (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) (آل عمران: 31)، فتأخر الخلق كلهم، وثبت أتباع الحبيب -صلى الله عليه وسلم- في أفعاله وأقواله وأخلاقه، فطولبوا بعدالة البينة بتزكية (يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) (المائدة: 54)، فتأخر أكثر المحبين، وقام المجاهدون، فقيل لهم: إن نفوس المحبين وأموالهم ليست لهم، فهلموا إلى بيعة (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) (التوبة: 111)، فلما عرفوا عظمة المشتري وفضل الثمن وجلالة من جرى على يديه عقد التبايع؛ عرفوا قدر السلعة، وأن لها شأنًا، فرأوا من أعظم الغبن أن يبيعوها لغيره بثمن بخس، فعقدوا معه بيعة الرضوان بالتراضي من غير ثبوت خيار، وقالوا: والله لا نقيلك، ولا نستقيلك، فلما تم العقد وسلموا المبيع قيل لهم: مذ صارت نفوسكم وأموالكم لنا رددناها عليكم أوفر ما كانت، وأضعافها معًا (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (آل عمران: 169).

إذا غرست شجرة المحبة في القلب، وسُقيت بماء الإخلاص، ومتابعة الحبيب؛ أثمرت أنواع الثمار، وآتت أكلها كل حين بإذن ربها، أصلها ثابت في قرار القلب، وفرعها متصل بسدرة المنتهى" (مدارج السالكين) (3/8- 9).

قوله -رحمه الله- عن المحبة: "تالله ما هزلت فيستامها المفلسون" يقال: هزل فلان هزلاً: ضعف وغث، والهزال: الغثاثة والنحافة، والهزيل: الغث النحيف، "فيستامها" أي: يتفاوض في بيعها، فيعرض البائع ثمنًا ويعرض المشتري ثمنًا دون الأول، "المفلسون": وهم كما جاء في الحديث من قول الصحابة لما سألهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن المفلس قالوا: (من لا درهم له ولا متاع) (رواه مسلم)، فلإفلاسه لا يساوم إلا في الأمور الرخيصة.

فالمحبة ليست هزيلة، إنما لها ثمن غالٍ من الأنفس والأموال، فلن تنال المحبة حتى تدفع ثمنها من راحتك ولذاتك وأمنك، وحتى تضحي بالشهوات، فليست المسألة مجرد دعوى وأنت مقيمٌ على ما أنت عليه لا تتحرك إلا فيما يوافق هواك، بل لابد أن تضحي، وتدفع الثمن الذي أراده الله -عز وجل- حتى تكون صادقًا في المحبة، فالمحبة لا تُنال دون ثمن، ولا يُساوم عليها المفلس، كمن يبذل لله من وقته ما فضل عن دنياه، أو يريد أن يبقى في دائرة الأمن مطمئنًّا تمامًا، لا يخالف أهل الباطل، ولا يخالف أهل الكفر ولا يتبرأ منهم، وكذلك لا يضحي بشيء من علاقاته، فيريد أن يلازم أبناءه دائمًا، ولا يفارق الظلال والثمار والزوجة الحسناء، وهي الأسباب التي جعلت كعب بن مالك -رضي الله عنه- يتخلف عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة تبوك، وقد قال: (وغزا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال) (حديث كعب بن مالك رواه البخاري ومسلم)، وكان لأبي خيثمة زوجتان قد أعدت كل منهما عريشًا وهيأت مشربًا ومأكلاً فقال: (أنا هنا ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الحر؟!)، ثم لحق به -صلى الله عليه وسلم-، فانظر إلى نفسك واستعدادها لبذل ثمن هذه المحبة، والله المستعان.

قوله -رحمه الله-: "ولا كسدت فيبيعها بالنسيئة المعسرون" فالبضاعة البائرة يشتريها من لا مال لديه من التجار لأجل الركود والكساد، فالمحبة ليست بضاعة كاسدة، بل هناك من يبذل فيها الثمن وإن كانوا قلة، فإن كنت محبًّا لله -عز وجل- صادقًا في محبتك فلابد أن تدفع الثمن مقدَّمًا، لا أن تدفعه بعد أن تجرب، ولكن ادفع أولاً وستجد السلعة بعد ذلك، فإن الله -عز وجل- اشترط أن تبذل أولاً فقال: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة: 111)، فهم يبذلون أولاً ليجدوا في الدنيًا شيئًا من الثمن، وفي الآخرة غاية الثمن، وهي الجنة التي يجدون فيها أعظم ما يريدون: حب الله -عز وجل-، والقرب منه، والنظر إلى وجهه وسماع كلامه، وكلما كثر بَذلُك وعظمت تضحيتُك كلما عظم حب الله -عز وجل- في قلبك، وكلما امتنعت من شهواتك وجاهدت نفسك وبذلت من راحتك كلما زاد الحب في قلبك، وكلما جاهدت شيئًا من الأصناف الثمانية المذكورة في قوله -عز وجل-: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (التوبة: 24)، هذه الثمانية كلما بذلت منها كلما كانت محبتك أعظم، فهذه السلعة غالية عند صاحبها، ليست كاسدة حتي يبيعها بالنسيئة، وإنما يبيعها نقدًا فبعد أن تبذل الثمن تأتيك السلعة.

قال ابن القيم -رحمه الله- في النونية:

يا سلعة الرحمن ليس ينالها               في الألف إلا واحد لا اثنانِ

يا سلعة الرحمن ماذا كفؤها                إلا أولو التقوى مع الإيمانِ

يا سلعة الرحمن سوقك كاسد              بين الأراذل سلفة الحيوانِ

يا سلعة الرحمن هل من خاطب            فالمهر قبل الموت ذو إمكانِ

يا سلعة الرحمن كيف تصبر الـ            خطاب عنك وهم ذوو إيمانِ

يا سلعة الرحمن لولا أنها                            حجبت بكل مكاره الإنسانِ

ما كان عنها قط من متخلف                         وتعطلت دار الجزاء الثاني

لكنها حجبت بكل كريهة                    ليصد عنها المبطل المتواني

وتنالها الهمم التي تسمو إلى              رب العلى بمشيئة الرحمنِ

فاتعب ليوم معادك الأدنى تجد              راحاته يوم الميعاد الثاني

وللحديث عن علامات الحب بقيةٌ بإذن الله -عز وجل-.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com

تصنيفات المادة