الجمعة، ١٠ ذو القعدة ١٤٤٥ هـ ، ١٧ مايو ٢٠٢٤
بحث متقدم

سيرة الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب

فلما رأى الشيخ الإمام هذا الشرك وظهوره في الناس وعدم وجود منكر لذلك وقائم بالدعوة إلى الله في ذلك شمر عن ساعد الجد وصبر على الدعوة وعرف أنه لابد من جهاد وصبر وتحمل للأذى

سيرة الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب
زين العابدين كامل
الاثنين ١١ فبراير ٢٠١٣ - ٢٣:٠٧ م
3011
سيرة الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب
1-ربيع ثاني-1434هـ   11-فبراير-2013      

كتبه/ زين العابدين كامل

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فإننا نعاني في هذه الفترة من الإعلام الفاسد المضلل، إعلام الدجال الأعور الذي تمكن من عقول الناس، بل ومن قلوبهم أيضًا!

الإعلام الذي يغير الحقائق ويزيفها ويلبس الحق بالباطل والذي أوحى للناس أن السلفية تنحصر في التشدد والرجعية والتخلف، وفي المذهب الحنبلي وفكر ابن تيمية وابن القيم والفكر الوهابي -كما يزعمون-؛ حتى أصبحت كلمة الوهابية تهمة وسبة عند البعض.

وفي هذه الأسطر نتحدث عن الشيخ الإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- الذي تنسب إليه كلمة الوهابية، فلقد حفظ الله هذه الأمة بوجود طائفة فيها، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (لاَ يَزَالُ مِنْ أُمَّتِي أُمَّةٌ قَائِمَةٌ بِأَمْرِ اللَّهِ، لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، وَلاَ مَنْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ(متفق عليه)، بل إنه حفظ كل قرن من الزمان بمجدد يبعثه الله -عز وجل- على رأس كل مائة عام يجدد للأمة أمر هذا الدين.

وقد قيض الله للأمة على فترات من الزمن من أبنائها المخلصين من يذود عن حمى الإسلام وحرماته؛ جهادًا بالسيف والقلم واللسان منذ فجر الإسلام إلى اليوم وإلى أن تقوم الساعة بمشيئة الله، ومن هؤلاء: الشيخ "محمد بن عبد الوهاب" -رحمه الله- فلقد أذن الله -سبحانه وتعالى- بظهور دعوة الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب في منتصف القرن الثاني عشر الهجري، بعد أن أطبقت الجهالة على الأرض وخيمت الظلمات على البلاد، وانتشر الشرك والضلال والابتداع في الدين ولكن الله -عز وجل- قضى بحفظ دينه وكتابه وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-.

ويمكننا القول إن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- تعد البداية الحقيقية لما حدث في العالم الإسلامي من يقظة جاءت بعد سبات طويل، وقد ولد هذا الإمام في عام 1115هـ في بلدة العيينة وتعلم على يد أبيه في بلدة العيينة مسقط رأسه -رحمه الله-، وهي قرية معلومة في اليمامة في نجد شمال غرب مدينة الرياض بينها وبين الرياض مسيرة سبعين كيلو مترًا تقريبًا، وتعلم القرآن وحفظه عن ظهر قلب قبل بلوغه عشر سنين، وكان حاد الفهم سريع الحفظ كثير المطالعة في كتب التفسير، واجتهد في الدراسة والتفقه على يد أبيه الشيخ عبد الوهاب بن سليمان -وكان فقيهًا كبيرًا وعالمًا قديرًا وقاضيًا في بلدة العيينة- وقرأ عليه في الفقه.

ثم بعد بلوغ الحلم حج وقصد بيت الله الحرام وأخذ عن بعض علماء الحرم الشريف، ثم توجه إلى المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام فاجتمع بعلمائها وأقام فيها مدة، ورحل الشيخ لطلب العلم إلى العراق فقصد البصرة واجتمع بعلمائها وأخذ عنهم ما شاء الله من العلم، وأظهر هناك الدعوة إلى توحيد الله ودعا الناس إلى السنة، ولم يتمكن من الرحلة إلى الشام وعاد إلى نجد يدعوهم إلى التوحيد.

ولقد ابتلي الشيخ -رحمه الله- فصبر على البلاء وقد ثار عليه بعض علماء السوء بالبصرة، فخرج من البصرة إلى الزبير، وتوجه من الزبير إلى الأحساء واجتمع بعلمائها وذاكرهم في أشياء من أصول الدين ثم توجه إلى بلاد حريملاء واستقر هناك ولم يزل مشتغلاً بالعلم والتعليم والدعوة في حريملاء حتى مات والده في عام 1153هـ، فحصل من بعض أهل حريملاء شر عليه، وأرادوا أن يصدوه عن أمر الدعوة إلى الله.

وبعد ذلك ارتحل الشيخ إلى العيينة وأميرها إذ ذاك عثمان بن محمد بن معمر فنزل عليه ورحب به الأمير، وقال له: "قم بالدعوة إلى الله ونحن معك وناصروك"، وأظهر له الخير والمحبة والموافقة على ما هو عليه، فاشتغل الشيخ بالتعليم والإرشاد والدعوة إلى الله -عز وجل-، وتوجيه الناس إلى الخير والمحبة في الله رجالهم ونسائهم، واشتهر أمره في العيينة وعظم صيته وجاء إليها الناس من القرى المجاورة.

وفي يوم من الأيام قال الشيخ للأمير عثمان: دعنا نهدم قبة زيد بن الخطاب -رضي الله عنه- فإنها أسست على غير هدى -وزيد بن الخطاب -رضي الله عنه- هو أخو عمر بن الخطاب أمير المؤمنين رضي الله -تعالى- عن الجميع، وأن الله -جل وعلا- لا يرضى بهذا العمل، والرسول -صلى الله عليه وسلم- نهى عن البناء على القبور واتخاذ المساجد عليها، وهذه القبة فتنت الناس وغيرت العقائد وحصل بها الشرك فيجب هدمها، فقال الأمير عثمان: لا مانع من ذلك، فقال الشيخ: إني أخشى أن يثور لها أهل الجبيلة -والجبيلة قرية هناك قريبة من القبر-، فخرج عثمان ومعه جيش يبلغون 600 مقاتل لهدم القبة ومعهم الشيخ -رحمة الله عليه- فلما قربوا من القبة خرج أهل الجبيلة لما سمعوا بذلك لينصروها ويحموها، فلما رأوا الأمير عثمان ومن معه كفوا ورجعوا عن ذلك فباشر الشيخ هدمها لإزالتها فأزالها الله -عز وجل- على يديه -رحمة الله عليه-.

كان أهل نجد قبل دعوة الشيخ على حالة لا يرضاها مؤمن، وكان الشرك الأكبر قد نشأ في نجد وانتشر حتى عُبدت القباب وعبدت الأشجار، واشتهر في نجد السحرة والكهنة وسؤالهم وتصديقهم وليس هناك منكر إلا من شاء الله! وغلب على الناس الإقبال على الدنيا وشهواتها، وقل القائم لله والناصر لدينه، وهكذا في الحرمين الشريفين وفي اليمن اشتهر في ذلك الشرك وبناء القباب على القبور ودعاء الأولياء والاستغاثة بهم!

فلما رأى الشيخ الإمام هذا الشرك وظهوره في الناس وعدم وجود منكر لذلك وقائم بالدعوة إلى الله في ذلك شمر عن ساعد الجد وصبر على الدعوة وعرف أنه لابد من جهاد وصبر وتحمل للأذى، فجد في التعليم والتوجيه والإرشاد وهو في العيينة، وفي مكاتبة العلماء في ذلك والمذاكرة معهم رجاء أن يقوموا معه في نصرة دين الله والمجاهدة في هذا الشرك وهذه الخرافات، فأجاب دعوته كثيرون من علماء نجد وعلماء الحرمين وعلماء اليمن وغيرهم وكتبوا إليه بالموافقة، وخالف آخرون وعابوا ما دعا إليه وذموه ونفروا عنه.

المقصود أن الشيخ -رحمه الله- استمر على الدعوة قولاً وعملاً كما تقدم، ثم إن الشيخ أتته امرأة واعترفت عنده بالزنا عدة مرات وسأل عن عقلها فقيل: إنها عاقلة ولا بأس بها، فلما صممت على الاعتراف ولم ترجع عن اعترافها، ولم تدع إكراهًا ولا شبهة وكانت محصنة، أمر الشيخ -رحمة الله عليه- بأن ترجم فرجمت بأمره حالة كونه قاضيًا بالعيينة، فاشتهر أمره بعد ذلك بهدم القبة وبرجم المرأة وبالدعوة العظيمة إلى الله وهجرة المهاجرين إلى العيينة.

وبلغ أمير الأحساء وتوابعها من القبائل أمر الشيخ وأنه يدعو إلى الله وأنه يهدم القباب، وأنه يقيم الحدود فعظم على هذا البدوي أمر الشيخ، فكتب إلى عثمان يتوعده ويأمره أن يقتل هذا المطوع الذي عنده في العيينة، فعظم على عثمان أمر هذا الأمير وخاف إن عصاه أن يقطع عنه خراجه أو يحاربه، فقال للشيخ: إن هذا الأمير كتب إلينا كذا وكذا، وأنه لا يحسن منا أن نقتلك وإنا نخاف هذا الأمير ولا نستطيع محاربته فإذا رأيت أن تخرج عنا فعلت.

فقال له الشيخ: إن الذي أدعو إليه هو دين الله وتحقيق كلمة لا إله إلا الله، وتحقيق شهادة أن محمدًا رسول الله، فمن تمسك بهذا الدين ونصره وصدق في ذلك نصره الله وأيده وولاه على بلاد أعدائه، فإن صبرت واستقمت وقبلت هذا الخبر فأبشر فسينصرك الله ويحميك من هذا البدوي وغيره، وسوف يوليك الله بلاده وعشيرته.

فقال: أيها الشيخ إنا لا نستطيع محاربته ولا صبر لنا على مخالفته، فخرج الشيخ عند ذلك وتحول من العيينة إلى بلاد الدرعية، وقد خرج من العيينة في أول النهار ماشيًا على الأقدام، ترك الوطن والمال والأهل والزوجة والمسكن وما بقي لديه سوى الإيمان القوي بصحة عقيدة السلف الصالح وحسن الظن بالله.

لقد سار من العيينة إلى الدرعية يمشي راجلاً ليس معه أحد في غاية الحر في فصل الصيف لا يلتفت عن طريقه، ويلهج بقوله -تعالى-: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ(الطلاق:2-3)، ويلهج بالتسبيح، فدخل على شخص من خيارها في أعلى البلد يقال له: محمد بن سويلم العريني فنزل عليه، ويقال: إن هذا الرجل خاف من نزوله عليه وضاقت به الأرض بما رحبت، وخاف من أمير الدرعية محمد بن سعود فطمأنه الشيخ وقال له: أبشر بخير، وهذا الذي أدعو الناس إليه دين الله وسوف يظهره الله.

وهناك بدأ التزاور بين خصائص أهل العلم من الدرعية، ولما علموا بثبات دعوة الشيخ وأنها على سبيل الرسول -صلى الله عليه وسلم- أرادوا أن يشيروا على ابن سعود بنصرته فهابوه، فأتوا إلى زوجته "موضي بنت أبي وهطان" من آل كثير وأخيه ثنيان، وكانت المرأة ذات عقل ودين ومعرفة فأخبروها بمكان الشيخ وصفة ما يأمر به وينهى عنه فوقر في قلوبهما معرفة التوحيد وقذف الله في قلوبهما محبة الشيخ، ولما دخل محمد بن سعود على زوجته أخبرته بمكان الشيخ وقالت له: هذا الرجل ساقه الله إليك وهو غنيمة فاغتنم ما خصك الله به، فقبل قولها ثم دخل على أخوه ثنيان وأخوه مشاري وأشاروا عليه مساعدته ونصرته، فأراد أن يرسل إليه فقالوا: سر إليه برجلك في مكانه وأظهر تعظيمه والاحتفال به؛ لعل الناس أن يكرموه ويعظموه.

فذهب محمد بن سعود إلى مكان الشيخ ورحب به وأبدى غاية الإكرام والتبجيل وأخبره أنه يمنعه بما يمنع به نساءه وأولاده... وقال: أبشر ببلاد خير من بلادك وأبشر بالعزة والمنعة، فقال الشيخ: وأنا أبشرك بالعزة والتمكين، وهذه كلمة لا إله إلا الله من تمسك بها وعمل بها ونصرها؛ ملك بها البلاد والعباد، وهي كلمة التوحيد وأول ما دعت إليه الرسل من أولهم إلى آخرهم، وأنت ترى نجدًا وأقطارها أطبقت على الشرك والجهل والفرقة وقتال بعضهم بعض؛ فأرجو أن تكون إمامًا يجتمع عليه المسلمون وذريتك من بعدك، وهكذا تم اللقاء التاريخي وحصلت البيعة المباركة على ذلك، وأخذ الشيخ -رحمه الله- بالدعوة والجهاد في سبيل إعلاء كلمة "لا إله إلا الله"، بدأ الجهاد بالسيف وبالكلام والبيان، والحجة والبرهان.

ثم استمرت الدعوة مع الجهاد بالسيف حتى التزم الناس بالطاعة ودخلوا في دين الله، وهدموا ما عندهم من القباب وأزالوا ما لديهم من المساجد المبنية على القبور وحكموا الشريعة، ودانوا بها وتركوا ما كانوا عليه من تحكيم سوالف الآباء والأجداد وقوانينهم، ورجعوا إلى الحق وفتحوا نجد والطائف ومكة وهدموا قبر خديجة ثم فتحوا المدينة وساد الأمن في الأمصار والقرى والطرق والبوادي ووقف البادية عند حدهم ودخلوا في دين الله وقبلوا الحق، ونشر الشيخ فيهم الدعوة، وأرسل إليهم المرشدين والدعاة في الصحراء والبوادي كما أرسل المعلمين والمرشدين والقضاة إلى البلدان والقرى، ثم بعد وفاة الشيخ -رحمة الله عليه- استمر أبناؤه وأحفاده وتلاميذه وأنصاره في الدعوة والجهاد.

ثم منذ ولي "محمد علي باشا" جعلت تركيا تدعوه إلى تجريد جيوشه لقتال الوهابيين وتتابع هذا الطلب من سنة "1222 - 1225هـ" فلم يستجب لنداء تركيا، ولكن الاستشراق بقناصله زين أخيرًا لـ"محمد علي باشا" أن يستجيب ليحقق مأربه في وأد "اليقظة" التي كادت تعم جزيرة العرب وأمدوه بالسلاح الذي يعينه على خوض الحرب وذلك في سنة 1226هـ/1811م -أي بعد ولايته على مصر بست سنوات-، وقد كلف السلطان العثماني محمود الثاني محمد علي باشا والي مصر بمهاجمة الدولة وخنقها؛ فشن حربًا لا هوادة فيها ضد الدعوة وجهز الحملة تلو الحملة للقضاء عليها، وأجلب عليها بالرعاع والجنود المرتزقة من الأرناؤوط والجركس والأرمن والترك والبدو الجفاة الذين حشدهم من كل فجٍ عميق.

وقد سخَّر "محمد علي باشا" للحرب على الدعوة الإصلاحية إمكانات مصر وبلاد الشام مع الدعم غير المحدود من دولة الخلافة،وفقدت الجيوش آلافا من أبنائها ولقيت هزائم كادت تودي بها، وأخيرًا تم لمحمد علي ما أراد بعد أن ارتكب الفظائع، واستباح الديار والأموال والنساء، وهدم المدن، وكانت حربًا طاحنة لا معنى لها ولا ينتفع بها إلا مؤججوها من "دعاة المسيحية الشمالية"، واستطاع محمد علي باشا استرداد الحجاز بما فيها مكة والمدينة والحرمين الشريفين، بل وأبعد النجعة في محاربة الدعوة السلفية فزحفت قواته بقيادة ابنه إبراهيم باشا على الدرعية عاصمة نجد وتم تسويتها بالأرض بطريقة غادرة ماكرة جسدت الخيانة ونقض العهد بصورة واضحة، وذلك في ذي القعدة 1233هـ/ سبتمبر1818م.

وبهذا تمكن محمد علي باشا من إجهاض مشروع الدولة الإصلاحية وعزله في حدود الصحراء العربية، وقدم بذلك خدمة لا نظير لها للدول الغربية الاستعمارية التي كانت قد ارتاعت من هذه الحركة التوحيدية الفتية التي كانت ترفع راية الجهاد ضد الغزاة، لا سيما بريطانيا العظمى التي كانت تخطط لبسط نفوذها على شبه الجزيرة العربية والخليج العربي بهدف التحكم في الطريقين البحريين الرئيسيين إلى الهند.

وأما الدعوة السلفية في حد ذاتها فلم يستطع القضاء عليها؛ لأنها كانت قد تأصلت في القلوب وباتت جزءًا لا يتجزأ من الواقع في جزيرة العرب، كما أنها كانت قد انتشرت لا سيما لدى الخاصة من العلماء والدعاة في أنحاء عدة من بلاد العالم الإسلامي، مثل: المغرب والهند ومصر واليمن وغيرهم.

وفي النهاية: نؤكد أننا لسنا وهابيين ولا تيميين، ولكننا نتبع محمدًا -صلى الله عليه وسلم-، وهؤلاء الرجال هم الذين نفضوا الغبار الذي كان يومًا قد رقد على المنهج فأزالوه ونقوا المنهج من البدع والخرافات والشركيات، والله نسأل أن يجازيهم خيرًا.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

www.anasalafy.com
موقع أنا السلفي