مظاهر القسوة في
مجتمعاتنا (34) آيات من القرآن في ذم القسوة (12)
كتبه/ ياسر
برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما
بعد؛
فقد قال الله -تعالى-: (وَمَا
أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى
أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي
الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ .
لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ .
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ
فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ
آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي
مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ
عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) (الحج:52-55).
قال الشيخ
الشنقيطي -رحمه الله- في "أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن" في
تفسير هذه الآية:
"مسألة: اعْلَمْ: أَنَّ مَسْأَلَةَ
الْغَرَانِيقِ مَعَ اسْتِحَالَتِهَا شَرْعًا، وَدَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَى
بُطْلَانِهَا لَمْ تَثْبُتْ مِنْ طَرِيقٍ صَالِحٍ لِلِاحْتِجَاجِ، وَصَرَّحَ
بِعَدَمِ ثُبُوتِهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ كَمَا هُوَ الصَّوَابُ،
وَالْمُفَسِّرُونَ يَرْوُونَ هَذِهِ الْقِصَّةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ طَرِيقِ
الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ
الْكَلْبِيَّ مَتْرُوكٌ، وَقَدْ بَيَّنَ الْبَزَّارُ -رَحِمَهُ اللَّهُ- أَنَّهَا
لَا تُعْرَفُ مِنْ طَرِيقٍ يَجُوزُ ذِكْرُهُ إِلَّا طَرِيقَ أَبِي بِشْرٍ عَنْ
سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، مَعَ الشَّكِّ الَّذِي وَقَعَ فِي وَصْلِهِ، وَقَدِ
اعْتَرَفَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ -مَعَ انْتِصَارِهِ لِثُبُوتِ هَذِهِ
الْقِصَّةِ- بِأَنَّ طُرُقَهَا كُلَّهَا إِمَّا مُنْقَطِعَةٌ أَوْ ضَعِيفَةٌ
إِلَّا طَرِيقَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ.
وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ؛ فَاعْلَمْ أَنَّ
طَرِيقَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، لَمْ يَرْوِهَا بِهَا أَحَدٌ مُتَّصِلَةً إِلَّا
أُمَيَّةَ بْنَ خَالِدٍ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ ثِقَةً فَقَدْ شَكَّ فِي وَصْلِهَا.
فَقَدْ أَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَابْنُ
مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ أُمَيَّةَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي
بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيمَا أَحْسَبُ، ثُمَّ
سَاقَ حَدِيثَ الْقِصَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَقَالَ الْبَزَّارُ: لَا يُرَى
مُتَّصِلًا إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ، تَفَرَّدَ بِوَصْلِهِ أُمَيَّةُ بْنُ
خَالِدٍ، وَهُوَ ثِقَةٌ مَشْهُورٌ، وَقَالَ الْبَزَّارُ: وَإِنَّمَا يُرْوَى مِنْ
طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْكَلْبِيُّ
مَتْرُوكٌ.
فَتَحَصَّلَ أَنَّ قِصَّةَ الْغَرَانِيقِ، لَمْ
تَرِدْ مُتَّصِلَةً إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي شَكَّ رَاوِيهِ فِي
الْوَصْلِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يُحْتَجُّ بِهِ لِظُهُورِ
ضَعْفِهِ؛ وَلِذَا قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: إِنَّهُ لَمْ
يَرَهَا مُسْنَدَةً مِنْ وَجْهٍ صَحِيحٍ.
وَقَالَ
الشَّوْكَانِيُّ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ: وَلَمْ يَصِحَّ شَيْءٌ مِنْ هَذَا، وَلَا
يَثْبُتُ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَمَعَ عَدَمِ صِحَّتِهِ، بَلْ بُطْلَانِهِ،
فَقَدْ دَفَعَهُ الْمُحَقِّقُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ؛ كَقَوْلِهِ: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ . لَأَخَذْنَا
مِنْهُ بِالْيَمِينِ . ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ . فَمَا مِنكُم مِّنْ
أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ) (الحاقة:44-47)، وَقَوْلِهِ: (وَمَا
يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى . إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) (النجم:3-4)، وَقَوْلِهِ: (وَلَوْلَا
أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا . إِذًا
لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ
عَلَيْنَا نَصِيرًا) (الإسراء:74-75)، فَنَفَى الْمُقَارَبَةَ لِلرُّكُونِ فَضْلًا
عَنِ الرُّكُونِ، ثُمَّ ذَكَرَ الشَّوْكَانِيُّ عَنِ الْبَزَّارِ أَنَّهَا لَا
تُرْوَى بِإِسْنَادٍ مُتَّصِلٍ، وَعَنِ الْبَيْهَقِيِّ أَنَّهُ قَالَ: هِيَ غَيْرُ
ثَابِتَةٍ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ.
وَذَكَرَ عَنْ
إِمَامِ الْأَئِمَّةِ ابْنِ خُزَيْمَةَ: أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ مِنْ وَضْعِ
الزَّنَادِقَةِ وَأَبْطَلَهَا ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّ، وَالْفَخْرُ
الرَّازِيُّ وَجَمَاعَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَقِرَاءَتُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- سُورَةَ النَّجْمِ وَسُجُودُ الْمُشْرِكِينَ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ،
وَلَمْ يُذْكَرْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ قِصَّةِ الْغَرَانِيقِ، وَعَلَى هَذَا
الْقَوْلِ الصَّحِيحِ، وَهُوَ أَنَّهَا بَاطِلَةٌ فَلَا إِشْكَالَ.
وَأَمَّا
عَلَى ثُبُوتِ الْقِصَّةِ كَمَا هُوَ رَأْيُ الْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي فَتْحِ الْبَارِي:
إِنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ ثَابِتَةٌ بِثَلَاثَةِ
أَسَانِيدَ كُلُّهَا عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ، وَهِيَ مَرَاسِيلُ يَحْتَجُّ
بِمِثْلِهَا مَنْ يَحْتَجُّ بِالْمُرْسَلِ، وَكَذَلِكَ مَنْ لَا يَحْتَجُّ بِهِ
لِاعْتِضَادِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ؛ لِأَنَّ الطُّرُقَ إِذَا كَثُرَتْ وَتَبَايَنَتْ
مَخَارِجُهَا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ لَهَا أَصْلًا، فَلِلْعُلَمَاءِ عَنْ
ذَلِكَ أَجْوِبَةٌ كَثِيرَةٌ أَحْسَنُهَا، وَأَقْرَبُهَا: أَنَّ النَّبِيَّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يُرَتِّلُ السُّورَةَ تَرْتِيلًا
تَتَخَلَّلُهُ سَكَتَاتٌ، فَلَمَّا قَرَأَ: (وَمَنَاةَ
الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى) (النجم:20)، قَالَ الشَّيْطَانُ -لَعَنَهُ اللَّهُ-
مُحَاكِيًا لِصَوْتِهِ: تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى، إلْخَ؛ فَظَنَّ
الْمُشْرِكُونَ أَنَّ الصَّوْتَ صَوْتُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-،
وَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ ذَلِكَ بَرَاءَةَ الشَّمْسِ مِنَ اللَّمْسِ، وَقَدْ
أَوْضَحْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي رِحْلَتِنَا إِيضَاحًا وَافِيًا،
وَاخْتَصَرْنَاهَا هُنَا، وَفِي كِتَابِنَا: "دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ
عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ" .
وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى بُطْلَانِهَا،
وَلَمْ تَثْبُتْ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ، مَعَ اسْتِحَالَةِ الْإِلْقَاءِ عَلَى
لِسَانِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِمَا ذُكِرَ شَرْعًا، وَمَنْ
أَثْبَتَهَا نَسَبَ التَّلَفُّظَ بِذَلِكَ الْكُفْرِ لِلشَّيْطَانِ، فَتَبَيَّنَ
أَنَّ نُطْقَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِذَلِكَ الْكُفْرِ
وَلَوْ سَهْوًا مُسْتَحِيلٌ شَرْعًا، وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى بُطْلَانِهِ،
وَهُوَ بَاطِلٌ قَطْعًا عَلَى كُلِّ حَالٍ.
وَالْغَرَانِيقُ: الطَّيْرُ الْبِيضُ الْمَعْرُوفَةُ، وَاحِدُهَا:
غُرْنُوقٌ كَزُنْبُورٍ وَفِرْدَوْسٍ، وَفِيهِ لُغَاتٌ غَيْرُ ذَلِكَ، يَزْعُمُونَ
أَنَّ الْأَصْنَامَ تَرْتَفِعُ إِلَى اللَّهِ كَالطَّيْرِ الْبِيضِ، فَتَشْفَعُ
عِنْدَهُ لِعَابِدِيهَا قَبَّحَهُمُ اللَّهُ مَا أَكْفَرَهُمْ!
وَنَحْنُ وَإِنْ ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ:
(فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ) يُسْتَأْنَسُ بِهِ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ
مَفْعُولَ الْإِلْقَاءِ الْمَحْذُوفِ تَقْدِيرُهُ: أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي
قِرَاءَتِهِ مَا لَيْسَ مِنْهَا؛ لِأَنَّ النَّسْخَ هُنَا هُوَ النَّسْخُ
اللُّغَوِيُّ، وَمَعْنَاهُ الْإِبْطَالُ وَالْإِزَالَةُ مِنْ قَوْلِهِمْ: نَسَخَتِ
الشَّمْسُ الظِّلَّ، وَنَسَخَتِ الرِّيحُ الْأَثَرَ، وَهَذَا كَأَنَّهُ يَدُلُّ
عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَنْسَخُ شَيْئًا أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ، لَيْسَ مِمَّا
يَقْرَؤُهُ الرَّسُولُ أَوِ النَّبِيُّ.
فَالَّذِي
يَظْهَرُ لَنَا أَنَّهُ الصَّوَابُ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ يَدُلُّ عَلَيْهِ
دَلَالَةً وَاضِحَةً -وَإِنْ لَمْ يَنْتَبِهْ لَهُ مَنْ تَكَلَّمَ عَلَى الْآيَةِ مِنَ
الْمُفَسِّرِينَ- هُوَ: أَنَّ مَا يُلْقِيهِ الشَّيْطَانُ فِي قِرَاءَةِ
النَّبِيِّ: الشُّكُوكُ وَالْوَسَاوِسُ الْمَانِعَةُ مِنْ تَصْدِيقِهَا
وَقَبُولِهَا، كَإِلْقَائِهِ عَلَيْهِمْ أَنَّهَا سِحْرٌ أَوْ شِعْرٌ، أَوْ
أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَأَنَّهَا مُفْتَرَاةٌ عَلَى اللَّهِ لَيْسَتْ
مُنَزَّلَةً مِنْ عِنْدِهِ.
وَالدَّلِيلُ
عَلَى هَذَا الْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ بَيَّنَ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي
الْإِلْقَاءِ الْمَذْكُورِ امْتِحَانُ الْخَلْقِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: (لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ)، ثُمَّ قَالَ: (وَلِيَعْلَمَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ
فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ)، فَقَوْلُهُ: (وَلِيَعْلَمَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ... ) الْآيَةَ، يَدُلُّ
عَلَى أَنَّ الشَّيْطَانَ يُلْقِي عَلَيْهِمْ، أَنَّ الَّذِي يَقْرَؤُهُ
النَّبِيُّ لَيْسَ بِحَقٍّ فَيُصَدِّقُهُ الْأَشْقِيَاءُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ
فِتْنَةً لَهُمْ، وَيُكَذِّبُهُ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ،
وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ لَا الْكَذِبُ؛ كَمَا يَزْعُمُ لَهُمُ
الشَّيْطَانُ فِي إِلْقَائِهِ: فَهَذَا الِامْتِحَانُ لَا يُنَاسِبُ شَيْئًا
زَادَهُ الشَّيْطَانُ مِنْ نَفْسِهِ فِي الْقِرَاءَةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ
-تَعَالَى-.
وَعَلَى هَذَا
الْقَوْلِ،
فَمَعْنَى نَسْخِ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ: إِزَالَتُهُ وَإِبْطَالُهُ، وَعَدَمُ
تَأْثِيرِهِ فِي الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ.
وَمَعْنَى يُحْكِمُ آيَاتِهِ: يُتْقِنُهَا
بِالْإِحْكَامِ، فَيُظْهِرُ أَنَّهَا وَحْيٌ مُنَزَّلٌ مِنْهُ بِحَقٍّ.
وَلَا يُؤَثِّرُ فِي ذَلِكَ مُحَاوَلَةُ
الشَّيْطَانِ صَدَّ النَّاسِ عَنْهَا بِإِلْقَائِهِ الْمَذْكُورِ، وَمَا ذَكَرَهُ
هُنَا مِنْ أَنَّهُ يُسَلِّطُ الشَّيْطَانَ فَيَلْقَى فِي قِرَاءَةِ الرَّسُولِ
وَالنَّبِيِّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ لِيَظْهَرَ مُؤْمِنُهُمْ مِنْ كَافِرِهِمْ
بِذَلِكَ الِامْتِحَانِ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ قَدَّمْنَاهَا
مِرَارًا كَقَوْلِهِ: (وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ
النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً
لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا
إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ
وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ
اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ
يَشَاءُ...) (المدثر:31)، وَقَوْلِهِ -تَعَالَى-: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا
لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ...)
(البقرة:143)، وَقَوْلِهِ: (وَمَا
جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ
وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) (الإسراء:60)، أَيْ: لِأَنَّهَا فِتْنَةٌ، كَمَا قَالَ: (أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ . إِنَّا
جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ . إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ
الْجَحِيمِ) (الصافات:62-64)؛ لِأَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالُوا: ظَهَرَ كَذِبُ مُحَمَّدٍ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ لِأَنَّ الشَّجَرَ لَا يَنْبُتُ فِي
الْمَوْضِعِ الْيَابِسِ؛ فَكَيْفَ تَنْبُتُ شَجَرَةٌ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ؟ إِلَى
غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ مِرَارًا، وَالْعِلْمُ
عِنْدَ اللَّهِ -تَعَالَى-.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: (لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ)، الْأَظْهَرُ أَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ،
بِأَلْقَى أَيْ: أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّةِ الرُّسُلِ
وَالْأَنْبِيَاءِ؛ لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ الْإِلْقَاءَ فِتْنَةً لِلَّذِينِ
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ؛ خِلَافًا لِلْحَوْفِيِّ الْقَائِلِ: إِنَّهَا
مُتَعَلِّقَةٌ بِـ "يُحْكِمُ"، وَابْنِ عَطِيَّةَ الْقَائِلِ: إِنَّهَا
مُتَعَلِّقَةٌ بِـ"يَنْسَخُ".
وَمَعْنَى
كَوْنِهِ فِتْنَةً لَهُمْ: أَنَّهُ سَبَبٌ لِتَمَادِيهِمْ فِي الضَّلَالِ
وَالْكُفْرِ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا مَعَانِيَ الْفِتْنَةِ فِي الْقُرْآنِ سَابِقًا،
وَبَيَّنَّا أَنَّ أَصْلَ الْفِتْنَةِ فِي اللُّغَةِ وَضْعُ الذَّهَبِ فِي
النَّارِ؛ لِيَظْهَرَ بِسَبْكِهِ فِيهَا أَخَالِصٌ هُوَ أَمْ زَائِفٌ؟ وَأَنَّهَا
فِي الْقُرْآنِ تُطْلَقُ عَلَى مَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ، مِنْهَا: الْوَضْعُ فِي
النَّارِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ -تَعَالَى-: (يَوْمَ هُمْ
عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) (الذاريات:13)، أَيْ: يُحْرَقُونَ بِهَا، وَقَوْلُهُ
-تَعَالَى-: (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ) (البروج:10)، أَيْ: أَحْرَقُوهُمْ بِنَارِ الْأُخْدُودِ
عَلَى أَظْهَرِ التَّفْسِيرَيْنِ.
وَمِنْهَا: الِاخْتِبَارُ، وَهُوَ أَكْثَرُ
اسْتِعْمَالَاتِهَا فِي الْقُرْآنِ، كَقَوْلِهِ -تَعَالَى-: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ) (الأنفال:28)، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) (الأنبياء:35)، وَقَوْلِهِ -تَعَالَى-: (وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ
مَاءً غَدَقًا . لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) (الجن:16-17).
وَمِنْهَا: نَتِيجَةُ الِابْتِلَاءِ إِنْ كَانَتْ
سَيِّئَةً كَالْكُفْرِ وَالضَّلَالِ؛ كَقَوْلِهِ: (وَقَاتِلُوهُمْ
حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ) (البقرة:193)، أَيْ: شِرْكٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: (وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) (البقرة:193)، وَقَوْلِهِ فِي الْأَنْفَالِ: (وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) (الأنفال:39)، وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أُمِرْتُ أَنْ
أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ...
) (متفق عليه)، فَالْغَايَةُ فِي الْحَدِيثِ مُبَيِّنَةٌ
لِلْغَايَةِ فِي الْآيَةِ؛ لِأَنَّ خَيْرَ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْقُرْآنُ بَعْدَ
الْقُرْآنِ السُّنَّةُ، وَمِنْهُ بِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ هُنَا: (لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ).
وَقَدْ جَاءَتِ الْفِتْنَةُ فِي مَوْضِعٍ
بِمَعْنَى الْحُجَّةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ -تَعَالَى- فِي الْأَنْعَامِ: (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ
رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) (الأنعام:23)، أَيْ: حُجَّتُهُمْ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ.
وَاعْلَمْ
أَنَّ مَرَضَ الْقَلْبِ فِي الْقُرْآنِ يُطْلَقُ عَلَى نَوْعَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَرَضٌ بِالنِّفَاقِ وَالشَّكِّ وَالْكُفْرِ،
وَمِنْهُ قَوْلُهُ -تَعَالَى- فِي الْمُنَافِقِينَ: (فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا) (البقرة:10)، وَقَوْلُهُ هُنَا: (لِيَجْعَلَ
مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ)
أَيْ: كُفْرٌ وَشَكٌّ.
وَالثَّانِي
مِنْهُمَا: إِطْلَاقُ
مَرَضِ الْقَلْبِ عَلَى مَيْلِهِ لِلْفَاحِشَةِ وَالزِّنَى، وَمِنْهُ بِهَذَا
الْمَعْنَى قَوْلُهُ -تَعَالَى-: (فَلَا تَخْضَعْنَ
بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) (الأحزاب:32)، أَيْ: مَيْلٌ إِلَى الزِّنَى وَنَحْوِهِ،
وَالْعَرَبُ تُسَمِّي انْطِوَاءَ الْقَلْبِ عَلَى الْأُمُورِ الْخَبِيثَةِ:
مَرَضًا، وَذَلِكَ مَعْرُوفٌ فِي لُغَتِهِمْ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى:
حَـافِظٌ
لِلْفَرْجِ رَاضٍ بِالتُّقَى
لَيْسَ مِمَّنْ قَلْبُهُ فِيهِ مَرَضُ
وَقَوْلُهُ هُنَا: (وَالْقَاسِيَةِ
قُلُوبُهُمْ) قَدْ بَيَّنَّا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ الْآيَاتِ
الْقُرْآنِيَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى سَبَبِ قَسْوَةِ الْقُلُوبِ فِي الْكَلَامِ
عَلَى قَوْلِهِ: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ
ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) (البقرة:74).
وَآيَةُ الْحَجِّ هَذِهِ تُبَيِّنُ أَنَّ مَا
اشْتُهِرَ عَلَى أَلْسِنَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ هُوَ مَنْ
أُوحِيَ إِلَيْهِ وَحْيٌ، وَلَمْ يُؤْمَرْ بِتَبْلِيغِهِ، وَأَنَّ الرَّسُولَ هُوَ
النَّبِيُّ الَّذِي أُوحِيَ إِلَيْهِ، وَأُمِرَ بِتَبْلِيغِ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ
غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ -تَعَالَى-: (وَمَا
أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ ... ) (الحج:52)، يَدُلُّ عَلَى أَنْ كُلًّا مِنْهُمَا مُرْسَلٌ،
وَأَنَّهُمَا مَعَ ذَلِكَ بَيْنَهُمَا تَغَايُرٌ، وَاسْتَظْهَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ
النَّبِيَّ الَّذِي هُوَ رَسُولٌ أُنْزِلَ إِلَيْهِ كِتَابٌ وَشَرْعٌ مُسْتَقِلٌّ
مَعَ الْمُعْجِزَةِ الَّتِي ثَبَتَتْ بِهَا نُبُوَّتُهُ، وَأَنَّ النَّبِيَّ
الْمُرْسَلَ الَّذِي هُوَ غَيْرُ الرَّسُولِ، هُوَ مَنْ لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ
كِتَابٌ، وَإِنَّمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ أَنْ يَدْعُوَ النَّاسَ إِلَى شَرِيعَةِ
رَسُولٍ قَبْلَهُ، كَأَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ كَانُوا
يُرْسَلُونَ وَيُؤْمَرُونَ بِالْعَمَلِ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ، كَمَا بَيَّنَهُ
-تَعَالَى- بِقَوْلِهِ: (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ
الَّذِينَ أَسْلَمُوا ... ) (المائدة:44)، وَقَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: (فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ)، أَيْ: تَخْشَعَ
وَتَخْضَعَ وَتَطْمَئِنَّ".
وللحديث بقية -إن شاء الله-.
موقع أنا السلفي
www.anasalafy.com