الخميس، ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ ، ١٨ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

شهر شعبان وتحقيق أصول المنهج

شهر شعبان وتحقيق أصول المنهج
حسن حسونة
الأحد ٢١ مارس ٢٠٢١ - ٠٠:٣٢ ص
524

شهر شعبان وتحقيق أصول المنهج

كتبه/ حسن حسونة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يكثر مِن الصيام في شعبان أكثر مِن صيامه في رجب حتى قالت أمنا عائشة -رضي الله عنها-: "مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ إِلَّا رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ" (متفق عليه). وفي رواية: "كَانَ يَصُومُهُ إِلَّا قَلِيلًا، بَلْ كَانَ يَصُومُهُ كُلَّهُ" (رواه الترمذي والنسائي، وصححه الألباني). وفي رواية: "كَانَ أَحَبَّ الشُّهُورِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَصُومَهُ: شَعْبَانُ، ثُمَّ يَصِلُهُ بِرَمَضَانَ" (رواه أبو داود، وصححه الألباني).

بل أكَّدت أمنا أمُ سلمة -رضي الله عنها- على هذا المعنى، فقالت: "مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَصُومُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ إِلَّا شَعْبَانَ وَرَمَضَان" (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، وفي رواية قالت: "لَمْ يَكُنْ يَصُومُ مِنَ السَّنَةِ شَهْرًا تَامًّا إِلَّا شَعْبَانَ يَصِلُهُ بِرَمَضَانَ" (رواه أبو داود، وصححه الألباني).

فهذه الروايات كلها تؤكِّد ذلك المعنى في كثرة صيام النبي -صلى الله عليه وسلم- في شعبان.

وفي شهر شعبان إعانة على تحقيق قواعد وأصول المنهج السلفي المبارك، والأصول هي: "التوحيد، والاتباع، والتزكية"، وبيان ذلك فيما يلي: فتحقيق التوحيد وإخلاص العبادة لله دون مَن سواه، هو الغاية من خلقنا، (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات:56).

وقد أخذ الله المواثيق على عباده بالتوحيد؛ ميثاق الظهر والفطرة، وبعث الله المرسلين مبشرين ومنذرين؛ لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل.

فتحقيق الربوبية: باعتقادنا بأن الله هو الخالق الرازق المدبر، والمحيي المميت، له المُلْك -بالضم- والمِلْك -بالكسر-، له السيادة وحق التشريع، لا ينازعه في ذلك أحدٌ.

وكذا تحقيق الألوهية: من خلال عبادتنا التامة له؛ الظاهرة والباطنة لا شريك له، وبذلك أمرنا ونحن من المسلمين، (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ) (البينة:5)، وهو أصل دين الأنبياء.

وكذا إثبات ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات: من غير تعطيل، ولا تحريف، ولا تكييف، وبلا تمثيل، ونفي ما نفاه عن نفسه، ونبذ الشريك عن الله؛ لأن الشرك أخطر الخطر، وأكبر الذنوب والآثام، ويحرم صاحبه من دخول الجنة: (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) (المائدة:72)، وهو محبط للعمل: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (الزمر:65)، بل هو أعظم الذنوب، وأكبر الكبائر على لسان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما سُئِل عن أكبر الكبائر، ذكر أنه الإشراك بالله.

فكان ذلك هو أول أصل من أصول المنهج، وتحقيق ذلك في حياة المسلم أمر لازم مهم في جميع أوقاته وأزمانه، ونجد الإشارة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في شهر شعبان، كما في الحديث عن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إِنَّ اللَّهَ لَيَطَّلِعُ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ) (رواه ابن ماجه، وحسنه الألباني).

فتدبر الحال ليلة النصف من شعبان... يطلع الله اطِّلَاعًا يليق بجلاله وعظمته إلى جميع الخلق، فتقع المغفرة لجميع الخلق؛ بشرط: تحقيق التوحيد وترك الشرك، وسلامة القلب؛ فهذه دعوة لإقامة التوحيد والإخلاص له -سبحانه- حتى تتحقق المغفرة.

أما عن الأصل الثاني: فهو الاتباع والاقتداء، والسير خلفه -صلى الله عليه وسلم- في أقواله وأفعاله وأخلاقه، ولا نتعدى ونتخطى سنته: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (الحشر:7)، (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) (النور:54).

آيات كثيرة في هذا المعنى، وفي الصحيح: (كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى)، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: (مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى) (رواه البخاري).

والاتباع ألا تقدِّم قولًا ولا رأيًا على رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا تجاوز فعله ولا تقصر عن هديه، بل كما قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم"، وقال الإمام أحمد: "عجبت لمَن ظهر له الإسناد يتركه ويذهب لقول سفيان!"، وكذا قال الإمام أبو حنيفة: "إذا صح الحديث فهو مذهبي"، وقال الإمام مالك: "كل يؤخذ من قوله ويرد عليه؛ إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:، وأقوال الأئمة في ذلك مشهورة ومعلومة؛ فقد وجهوا الناس أن يأخذوا من حيث أخذوا.

ولما وقع الخلاف في مسألة متعة الحج، قال ابن عباس: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كذا... فقال رجل: لكنَّ أبا بكر وعمر يقولان كذا... فقال ابن عباس: "يوشك أن تنزل علينا حجارة من السماء! أقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كذا... وتقولون: قال أبو بكر، قال عمر!

ونجد الإشارة في شهر شعبان إلى ذلك مِن خلال سؤال الصحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أفعاله وأسبابها حتى يتم لهم الاتباع بنفس المنهج؛ فقد تتبعوا سكتاته وأفعاله وأقواله، وسألوه عنها؛ فأسامة بن زيد -رضي الله عنهما- يسأل رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- عن سبب كثرة صيامه في شعبان حتى يتم له الاتباع، ولا يتخطى هديه، فيجيبه النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ ) (رواه النسائي، وحسنه الألباني)، وهو الرفع السنوي للأعمال؛ فهناك رفع أسبوعي يومي الاثنين والخميس، وهناك رفع يومي كما في حديث أبي موسى الأشعري وفيه: (يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ) (رواه مسلم)، والرفع السنوي في شعبان.

والاتباع أيضًا كما في حديث تحويل القبلة -إن قلنا إنه في شعبان-: حيث قال الرجل الذي صلَّى مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تجاه البيت، أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تجاه البيت فأخذ الناس في الاتباع، وداروا وهم في صلاتهم متجهين إلى بيت الله الحرام.

فقضية الاتباع من أحسن ما يتميز به المحِب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- محبة حقيقية ليست زائفة، والمبتدع الذي يقول بلسان حاله: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد قَصَّر في تبليغ الرسالة، فمِن ثَمَّ يريد أن يستدرك عليه بفعل البدع التي قال عنها النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ) (رواه مسلم)، فلو أحب المبتدعُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- لاتبعه.

أما عن الأصل الثالث: فهو التزكية، قال الله -تعالى-: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا . فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا . قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا . وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس:7-10)، فتزكيتها بالتوحيد والعمل الصالح، تزكيتها من الأخلاق المذمومة والأفعال الرديئة والمعاملات الخبيثة.

يزكي نفسه بالعبادات؛ فرائض ونوافل ليصل إلى محبة الله.

يزكيها بالأخلاق الفاضلة من: الصدق والأمانة، والورع والسخاء، والإيثار، وغيرها.

يزكيها بالمعاملات الصادقة في البيع والشراء، والماليات، ونحوها، والمسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، ولا يخذله، ولا يحقره.

وفي شعبان تتحقق التزكية من خلال الحديث الذي مرَّ بنا في قول النبي -صلى الله عليه وسلم- من أن الله يغفر لجميع أهل الأرض إلا المشرك والمشاحن، فالمشاحنة لم تأتِ إلا لعدم صفاء القلب وسلامة الصدر، قال الله مادحًا مَن جاء بعد المهاجرين والأنصار: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (الحشر:10).

ومعلوم لدينا: أن سلامة القلب والصدر مِن أسباب دخول الجنان، كما في شأن الرجل الذي أخبر عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه مِن أهل الجنة في ثلاثة أيام متتابعة ثم إن هذا الرجل أخبر عبدَ الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أنه يبيت لا يحمل لأحدٍ من المسلمين غلًّا ولا حسدًا، فقال له: "هذه التي بلغت بك".

إذًا فموسم المغفرة لا يحصل إلا لمَن وَحَّد الله، وَسلَّم قلبه وصدره، فَزَكَّى هذه النفس، فَمِن خلال فضل شهر شعبان نحقِّق أصول المنهج السلفي: "التوحيد والاتباع والتزكية".

أسأل الله أن يستعملنا في طاعته وخدمة دينه، وأن يبلغنا رمضان غير فاقدين ولا مفقودين. آمين.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com