السبت، ١٩ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٧ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

تائية الإلبيري ... حينما تجتمع البلاغة والحكمة

تائية الإلبيري ... حينما تجتمع البلاغة والحكمة
الأربعاء ٠٩ فبراير ٢٠٢٢ - ١٥:٠٣ م
50

تائية الإلبيري ... حينما تجتمع البلاغة والحكمة

كتبه/ علاء الدين عبد الهادي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فإذا كنت تحب الشعر والأدب والبلاغة، وترى فيها حسنًا وجمالًا، وذوقًا راقيًا، أو كنت تحب تعلم معاني الحكمة، وتأمل خبرات مَن سبقوك، وخلاصة تجارب حياتهم؛ فلا بد أن تعجبك تائية الإلبيري رحمه الله.

والإلبيري -كما سبق في مقال سابق- كان قاضيًا وفقيهًا، ومقرئًا ومحدثًا، وأديبًا شاعرًا، مما أهَّله أن يكون من المصلحين في زمانه ومجتمعه، فهو الرجل الذي تعلم دينه وجلس إلى كبار علماء عصره ثم هو يرى كيف أصبح الناس من حوله يتهافتون على الدنيا ويسارعون فيها، ورأى الأمراء والحكام يتقاتلون فيما بينهم ويتحالفون مع أعداء دينهم ضد أبناء ملتهم، وغير ذلك من مظاهر غربة الدين وضعف الأمة؛ لذا سلك مسلك مثله في مثل هذه الأزمات، وراح يقيم نفسه في حقل الدعوة وإصلاح الأمة بكل سبيل يستطيعه، ومن أجل هذا سخَّر شعره وبيانه وبلاغته في نشر الخير، والعلم والحكمة بين الناس في عِدَّة قصائد شعرية رائعة، وكان مِن أشهرها وأرقها وأطولها القصيدة المعروفة بالتائية.

وهي نصائح غالية وموعظة بليغة وجَّهها الإلبيري رحمه الله إلى شخص يسمَّى (أبو بكر) ينصحه، قيل: هو ابنه ينصحه ليتوب ويعود إلى طريق الاستقامة. وقيل: هو رجل كان مزاملًا للإلبيري ثم تكلَّم في حقه، ونال من عرضه، فكتب الإلبيري له هذه القصيدة ينصحه ويعظه. وقيل: إنه رجل مبهم. وقيل: بل قصد بالنصح وخاطب كل قارئ للقصيدة أو سامع لأبياتها.

وأيًّا مَن كان (أبو بكر) هذا، وأيًّا ما كان سبب تأليف القصيدة؛ فيبقى أنه قد جمع فيها من الموضوعات والآداب ما ينبغي على كل مسلم -لا سيما طلبة العلم- أن ينتفع بما فيها من المعاني، وقد جاء في مطلعها التذكير باقتراب الموت وحقيقة الدنيا التي ينخدع بها الناس، فقال:

تَـفُـتُّ فـؤادكَ الأيـامُ فَتَّا                    وتَنْحِتُ جِسمَكَ الساعاتُ نَحتا

وتَدْعُوكَ المنونُ دُعاءَ صِدقٍ             ألا يا صاحِ: أنتَ أريدُ، أنتا

أراكَ تُـحِبُ عِرسًا ذات غَدرٍ              أبـتَّ طَـلاقـها الأكياسُ بَتَّا

تـنامُ الدهرَ ويحكَ في غطيطٍ              بِـهـا حَـتى إذا مِتَّ انتبهتا

ثم يتوجَّه إلى (أبي بكر) مذكِّرًا إياه بالعلم وفضله، وأهمية طلبه والاجتهاد فيه، فيقول:

أبـا بـكـرٍ دَعَوْتُكَ لو أَجَبتا                 إلـى مـا فيه حَظُّكَ إن عَقَلْتا

إلـى عـلـمٍ تكونُ به إمامًا                 مُـطاعًا إن نَهَيتَ وإنْ أَمَرْتَا

هُوَ العَضْبُ المُهنَّدُ ليسَ يَنبُو             تُـصِيبُ بِهِ مَقاتلَ مَنْ ضَربتا

وكَـنـزٌ لا تخافُ عليهِ لِصًّا                خَفيفُ الحملِ يُوجدُ حيثُ كنتا

يَـزيـدُ بِـكَثرَةِ الإنفاق منهُ                 ويـنـقـصُ أن بهِ كفًّا شَدَدْتا

فـلو قد ذُقْتَ من حلواه طَعمًا             لآثَـرْتَ الـتـعلُّمَ واجتهدتا

ثم يذكره بأهمية العمل بهذا العلم ومسئولية تحمله أمام الله، فيقول:

فـلا تـأمـنْ سُؤالَ اللهِ عنهُ                 بتوبيخٍ: عَلِمتَ فهل عَمِلْتا؟

فـرأسُ الـعِلمِ تَقوى اللهِ حقًّا               ولـيس بأن يُقال: لقد رأستا

إذا مـا لـم يُفِدْكَ العِلمُ خيرًا                فـخـيرٌ منهُ أن لو قد جَهِلتا

وبعد أن ذكر أهمية العلم ومكانة أهله العالية، ذكَّر بحقارة الدنيا المغترين بها:

فـلـيـستْ هذِهِ الدنيا بِشيءٍ               تَـسُـوؤكَ حِـقْبَةً وتَسُرُّ وَقتا

وغـايَـتُـها إذا فكَّرْتَ فيها                 كَـفَيئِكَ أو كَحُلْمِكَ إن حَلَمْتا

سُـجِنْتَ بِها وأنتَ لها مُحِبٌ               فـكـيفَ تُحِبُّ ما فيه سُجِنتا

ثم يعلمنا الإلبيري رحمه الله درسًا في الصدق مع النفس والتواضع، وألا يضع الإنسان في مخيلته أنه هو الصالح المصلح، وغيره هو المغتر المقصر، الفاسد المفسد، فيصف الإلبيري نفسه بالمقصر الغارق في بحر الخطايا، ويلقن (أبا بكر) حجته عليه في أبيات طويلة يذم بها نفسه، فيقول له:

قُـلْ لي يا نَصيحُ لأنت أولى               بِـنُصْحِكَ لو بِعقلكَ قد نَظَرتا

تُـقـطعني على التفريط لَوْمًا              وبـالـتفريط دهركَ قد قطعتا

وفـي صِغري تُخَوِّفني المنايا             ومـا تجري بِبالك حين شِختا

وكـنتَ مع الصِّبا أهدى سبيلاً            فـمـا لك بعدَ شيبكَ قد نُكِستا

وها أنا لم أخُضْ بحرَ الخطايا            كـمـا قد خُضتَهُ حتى غَرِقتا

ثم يعلِّق على اتهاماته التي وجهها لنفسه على لسان (أبي بكر)، ولا يرد التهمة على نفسه، ولا يدعي لنفسه العصمة:

أبـا بـكـرٍ كشفت أقل عيبي                وأكـثـرهُ ومُـعـظمهُ سَترتا

فقل ما شئت فيِّ من المخازي           وضـاعِـفـها فإنك قد صَدقتا

ومـهـما عِبتني فلِفرْطِ عِلمي             بـبـاطـنـتي كأنك قد مدحتا 

لم يهتم الإلبيري بدفع التهمة عن نفسه، بل كل ما يهتم به هو ألا يغتر (أبو بكر) بالدنيا، وألا يرضى بأن يكون من أهل المعايب فيها:

فـلا ترضَ المعايبِ فهي عارٌ             عـظـيمٌ يورثُ الإنسان مقتا

ثم يتوجَّه إليه في آخر القصيدة بقوله:

جـمعت لك النصائحَ فامتثلها             حياتك فهي أفضل ما امتثلتا

وطـولـتُ العتابَ وزِدتُ فيهِ               لأنـك فـي الـبطالةِ قد أطلتا

فـلا تأخذ بتقصيري وسَهوي             وخـذْ بوصيتي لك إن رَشَدتا

وفي النهاية، أنصح القارئ الكريم بالبحث عن هذه القصيدة، وقراءتها كاملة، فما ذكرته هنا إنما هو اختصار شديد فرضته مساحة المقالة، وأدعو كل قارئ للاستمتاع بها والاستفادة مما فيها من آداب وأخلاق وحِكَم ومواعظ، كما أرجو أن ينتبه الآباء والمربون والدعاة والمدرسون لهذه القصيدة، وأن يولوها مكانتها التي تستحق؛ قراءة وتدريسًا وإشاعة بين الناس، فقد كان بعض العلماء في الماضي يلزم طلبته بحفظها ودراستها حتى ينتفعوا بها.

فرحم الله العلامة الإلبيري، وغفر لكلِّ مَن سبقونا بالإيمان، ولكلِّ مَن سعوا في إصلاح الأمة.

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com