السبت، ١٩ شوال ١٤٤٥ هـ ، ٢٧ أبريل ٢٠٢٤
بحث متقدم

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (57) حقيقة دين إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- وعلاقته باليهودية والنصرانية (2)

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (57) حقيقة دين إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- وعلاقته باليهودية والنصرانية (2)
الأحد ٢٧ فبراير ٢٠٢٢ - ١٩:٤٤ م
123

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (57) حقيقة دين إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- وعلاقته باليهودية والنصرانية (2)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

قوله -تعالى-: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنجِيلُ إِلَّا مِن بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ . هَا أَنتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ . مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران:65 -68).

قال ابن جرير -رحمه الله-: (يعني تعالى ذكره بقوله: يا أهل الكتاب، يا أهل التوراة والإنجيل لِمَ تحاجون، لم تجادلون في إبراهيم وتخاصمون فيه، يعني: في إبراهيم خليل الرحمن -صلوات الله عليه وسلامه-، وكان حجِاجهم فيه: ادّعاءُ كل فريق من أهل هذين الكتابين أنه كان منهم، وأنه كان يدين دينَ أهل نِحْلته، فعابهم الله -عز وجل- بادِّعائهم ذلك، ودلَّ على مُناقضتهم ودعواهم، فقال: وكيف تدَّعون أنه كان على ملتكم ودينكم، ودينُكم إما يهودية أو نصرانية، واليهودي منكم يزعُم أن دينه إقامةُ التوراة والعملُ بما فيها، والنصراني منكم يزعم أن دينه إقامةُ الإنجيل وما فيه، وهذان كتابان لم ينـزلا إلا بعد حين من مَهلِك إبراهيم ووفاته؟ فكيف يكون منكم؟ فما وجه اختصامكم فيه وادعاؤكم أنه منكم، والأمر فيه على ما قد علمتم؟!

وقيل: نـزلت هذه الآية في اختصام اليهود والنصارى في إبراهيم، وادعاء كل فريق منهم أنه كان منهم، عن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: اجتمعت نصارى نجران وأحبارُ يهود عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتنازعوا عنده، فقالت الأحبار: ما كان إبراهيمُ إلا يهوديًّا، وقالت النصارى: ما كان إبراهيم إلا نصرانيًّا! فأنـزل الله -عز وجل- فيهم: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) (آل عمران:65)، قالت النصارى: كان نصرانيًّا! وقالت اليهود: كان يهوديًّا، فأخبرهم الله أن التوراة والإنجيل ما أنـزلا إلا من بعده، وبعده كانت اليهودية والنصرانية.

وعن قتادة قوله: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ) (آل عمران:65)، يقول: لِمَ تحاجون في إبراهيم وتزعمون أنه كان يهوديًّا أو نصرانيًّا، وما أنـزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده، فكانت اليهودية بعد التوراة، وكانت النصرانية بعد الإنجيل، أفلا تعقلون؟!

وقال آخرون: بل نـزلت هذه الآية في دعوى اليهود إبراهيم أنه منهم، عن قتادة قال: ذكر لنا أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- دعا يهود أهل المدينة إلى كلمة السواء، وهم الذين حاجُّوا في إبراهيم، وزعموا أنه مات يهوديًّا؛ فأكذبهم الله -عز وجل- ونفاهم منه، فقال: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) (ورَوَى عن الربيع مثله).

وروى عن مجاهد في قول الله -عز وجل-: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ)، قال: اليهود والنصارى، برَّأه الله -عز وجل- منهم، حين ادَّعت كل أمة أنه منهم، وألحق به المؤمنين مَنْ كان من أهل الحنيفية (قلتُ: قول مجاهد يوافِق القول الأول أنها نزلت في اليهود والنصارى كما ذكره محمد بن إسحاق عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، وهذا أقرب إلى سياق الآيات؛ فإنها نزلت في شأن المسيح -صلى الله عليه وسلم- ومعلوم أنها كانت عند مجيء وفد نصارى نجران إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، ومجادلتهم إياه، فالمناسب أنها كانت في اليهود والنصارى معًا كما سبق في القول الأول).

وأما قوله: (أَفَلَا تَعْقِلُونَ) فإنه يعني: أفلا تفقَهون خطأ قيلكم: إن إبراهيم كان يهوديًّا أو نصرانيًّا، وقد علمتم أنّ اليهودية والنصرانية حدَثَت مِن بعد مَهلكه بحين؟!  

وقوله: (هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (آل عمران: 66).

قال أبو جعفر ابن جرير الطبري -رحمه الله-: يعني بقوله جل ثناؤه: ها أنتم، القومَ الذين قالوا في إبراهيم ما قالوا حاججتم، خاصمتم وجادلتم فيما لكم به علم من أمر دينكم الذي وجدتموه في كتبكم، وأتتكم به رسل الله من عنده، وفي غير ذلك مما أوتيتموه وثبتت عندكم صحته؛ فلِمَ تحاجون، يقول: فلم تجادلون وتخاصمون فيما ليس لكم به علم، يعني: في الذي لا علم لكم به من أمر إبراهيم ودينه، ولم تجدوه في كتب الله، ولا أتتكم به أنبياؤكم، ولا شاهدتموه فتعلموه؟

عن السدي: (هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ)؛ فلمَ تحاجُّون فيما ليس لكم به علم، أما الذي لهم به علم، فما حرَّم عليهم وما أمروا به، وأما الذي ليس لهم به علم، فشأن إبراهيم.

عن قتادة: (هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ)، يقول: فيما شهدتم ورأيتم وعاينتم؛ فلمَ تحاجُّون فيما ليس لكم به علم، فيما لم تشاهدوا ولم تروا ولم تعاينوا، والله يعلم وأنتم لا تعلمون؟! وروى عن الربيع مثله.

قال ابن جرير: قوله: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)، يقول: والله يعلم ما غَاب عنكم فلم تشاهدوه ولم تروه، ولم تأتكم به رسلُه من أمر إبراهيم وغيره من الأمور، ومما تجادلون فيه؛ لأنه لا يغيب عنه شيء، ولا يعزُبُ عنه علم شيء في السماوات ولا في الأرض، وأنتم لا تعلمون من ذلك إلا ما عاينتم فشاهدتم أو أدركتم علمه بالإخبار والسَّماع.

وقوله -تعالى-: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (آل عمران: 67).

قال أبو جعفر الطبري: وهذا تكذيبٌ من الله -عز وجل- دعوَى الذين جادلوا في إبراهيم وملته من اليهود والنصارى، وادَّعوا أنه كان على ملتهم وتبرئة لهم منه، وأنهم لدينه مخالفون، وقضاءٌ منه -عز وجل- لأهل الإسلام ولأمة محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- أنهم أهل دينه، وعلى منهاجه وشرائعه دون سائر أهل الملل والأديان غيرهم.

يقول الله عز وجل: ما كان إبراهيم يهوديًّا ولا نصرانيًّا، ولا كان من المشركين الذين يعبدون الأصنامَ والأوثانَ أو مخلوقًا دون خالقه الذي هو إله الخلق وبارئهم، ولكن كان حنيفًا، يعني: متبعًا أمرَ الله وطاعته، مستقيمًا على محجَّة الهدى التي أمر بلزومها، مسلمًا يعني: خاشعًا لله بقلبه، متذللًا له بجوارحه، مذعنًا لما فَرَض عليه وألزمه من أحكامه.

عن عامر، قال: قالت اليهود: إبراهيم على ديننا. وقالت النصارى: هو على ديننا. فأنـزل الله -عز وجل-: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا) الآية، فأكذبهم الله، وأدحض حجتهم -يعني: اليهودَ الذين ادّعوا أن إبراهيم ماتَ يهوديًّا-، وعن الربيع مثله.

عن سالم بن عبد الله -لا أراه إلا يحدثه عن أبيه-: أنَّ زيد بن عمرو بن نفيل خرَج إلى الشام يسأل عن الدِّين، ويتبعه، فلقيَ عالمًا من اليهود، فسأله عن دينه، وقال: إني لعلِّي أنْ أدين دينكم، فأخبرني عن دينكم. فقال له اليهودي: إنك لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله. قال زيد: ما أفرّ إلا من غضب الله، ولا أحمل من غَضب الله شيئًا أبدًا وأنا أستطيع. فهل تدلني على دين ليس فيه هذا؟  قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفًا! قال: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم، لم يك يهوديًّا ولا نصرانيًّا، وكان لا يعبد إلا الله.

فلقي عالمًا من النصارى، فسأله عن دينه فقال: إني لعلِّي أن أدين دينكم، فأخبرني عن دينكم. قال: إنك لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله. قال: لا أحتمل من لعنة الله شيئًا، ولا من غضب الله شيئًا أبدًا، وأنا أستطيع، فهل تدلني على دين ليس فيه هذا؟ فقال له نحوًا مما قاله اليهودي: لا أعلمه إلا أن يكون حنيفًا. فخرج من عنده، وقد رَضِي الذي أخبراه والذي اتفقا عليه من شأن إبراهيم، فلم يزل رافعًا يديه إلى الله وقال: اللهم إني أشهِدك أني على دين إبراهيم. (قلتُ: قد ثبت في السنة الصحيحة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أثنى على زيد بن عمر بن نوفيل، ورآه في هيئة حسنة).

وقوله -تعالى-: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران: 68).

قال أبو جعفر: يعني -جل ثناؤه- بقوله: إن أولى الناس بإبراهيم، إن أحقّ الناس بإبراهيم ونصرته وولايته للذين اتبعوه، يعني: الذين سلكوا طريقَه ومنهاجه، فوحَّدوا الله مخلصين له الدين، وسنُّوا سُنته، وشرَعوا شرائعه، وكانوا لله حنفاء مسلمين غير مشركين به، وهذا النبي يعني: محمدًا -صلى الله عليه وسلم- والذين آمنوا، يعني: والذين صدّقوا محمدًا، وبما جاءهم به من عند الله والله ولي المؤمنين، يقول: والله ناصرُ المؤمنين بمحمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، المصدِّقين له في نبوّته وفيما جاءهم به مِن عنده، على مَن خالفهم مِن أهل الملل والأديان.

وعن قتادة قوله: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ)، يقول: الذين اتبعوه على ملّته وسنَّته ومنهاجه وفطرته وهذا النبي، وهو نبي الله محمد والذين آمنوا معه، وهم المؤمنون الذين صدّقوا نبي الله واتبعوه. كان محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والذين معه من المؤمنين، أولى الناس بإبراهيم. وروى عن الربيع مثله.

عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لكل نبيّ ولاةً من النبيين، وإن وليِّي منهم أبِي وخليل رَبّي، ثم قرأ: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَ?ذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (حديث صحيح)، وعن ابن عباس في قول الله: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ)، وهم المؤمنون" (انتهى من تفسير ابن جرير).

موقع أنا السلفي

www.anasalafy.com


تصنيفات المادة